يسير الحوار «القواتي» ـ «العوني» على وقعِ التعطيل الرئاسي الذي يبدو أنّه مرشّح للاستمرار، على الأقلّ حتى منتصف الصيف المقبل، ويستمرّ الحوار موضوعاً كمَلفّ في خدمة المتحاورَين اللذين يجدان أن لا ضرَر من الاستمرار طالما إنّ القرار بانتخاب الرئيس مغيَّب، وطالما إنّ المنطقة تمرّ في مرحلة تحوّلات كبرى، تتطلّب نوعاً من الاختباء وراء الملفّات الهامشية في انتظار اتّضاح الصورة الإقليمية.
من وجهة النظر «القوّاتية» فإنّ هذا الحوار يحقّق كثيراً من الأهداف، من دون الاضطرار إلى دفعِ كثير من الأكلاف، فالتهدئة المسيحية ـ المسيحية يُنظر إليها في «القوات» على أنّها مكسَب كبير يَطوي، ولو إلى حين، حملات الحقد والكراهية بين المسيحيين، فليس سهلاً في نظر «القوات» أن يعمّ الهدوء في الجامعات، وأن تطوَّق الإشكالات بقرار مركزيّ مزدوج، وليس سهلاً أن يتمّ إسقاط الدعاوى وإسكات أبواق الإعلام والحملات، اليومية، وليس سهلاً تبادُل الزيارات، وحضور المناسبات المتبادَلة، كحضور النائب سيمون أبي رميا احتفالاً أمس الأوّل في معراب.
أمّا عن الأكلاف فتَعتبر «القوات» أنّها لم تدفع كثيراً من الأثمان لإنجاح هذا الحوار، فلا هي تخَلّت عن مواقفها السياسية أو الرئاسية، ولا علاقتُها بحلفائها تأثّرَت، ولا موقعُها اهتزّ، وكلّ ما في الأمر أنّها وضعَت خريطة تفاوض واضحة مع عون، تُترجَم بالاتفاق على الملفات التي يمكن التوافق حولها، وإبقاء الملفّات الخلافية على خلافاتها، والاستمرار في تأكيد الثوابت، وأوّلها أنّ الموقف من القبول بعون رئيساً، يقتضي تغييراً جوهرياً في موقفِه السياسي من القضايا الأساسية، وأوّلُها سلاح «حزب الله»، وسلطة الدولة على أراضيها، والحدود، والموقف من قتال «حزب الله» في سوريا، وكلّها قضايا تعرف «القوات» أنّ عون لا يريد ولا يستطيع أن يبدّلَ فيها حرفاً واحداً.
بالنسبة إلى عون كان مستغرَباً عدمُ تنفيذه التهديدَ بقطعِ الحوار بعدَ عيد الفصح إذا لم يتبنَّه جعجع رئيساً. هذا الاستغراب مرَدُّه إلى رغبة عون في تأجيل قطع الحوار، كونه يتلطّى خلفَه لتخفيف المسؤولية الملقاة على عاتقه بالتعطيل، كما أنّ عون لا يجد ضرَراً من استمرار الحوار مع جعجع، لأنّه بذلك يستمرّ في فتحِ قنوات اتّصال مع تيار «المستقبل» من زاوية أنّه مشروع رئيس وفاقي، مسيحيّاً وعلى الصعيد الوطني، وهو أمرٌ لا يزال يسعى لإيصال صداه إلى المملكة العربية السعودية التي أفهَمت الجميع أنّ جعجع يملك حقّ «الفيتو» على أيّ إسمٍ يمكن أن يُطرَح للرئاسة، عِلماً أنّ جعجع كان أكبر الكاسبين من هذا الحوار انطلاقاً من هذه الزاوية، حيث بدا وكأنّ مفتاح انتخاب عون هو في يده حصراً.
في موازاة هذا التبادل المصلحي، يستمرّ الحوار عبر النائب ابراهيم كنعان وملحم الرياشي، في لقاءاتهما الليلية المتواصلة التي تشَكّل قناةَ التواصل بين عون وجعجع. ويستعدّ «إعلان النيّات» الشهير لقطعِ الطريق نحو النهاية السعيدة بعد إضافة بعض الفواصل والنقاط الأخيرة التي أُشبِعت درساً وتمحيصاً، ويُنتظر أن يكون هذا الإعلان مفخرةً في النحت اللغوي وتدوير الزوايا مروراً بين الألغام المزروعة في المواقف السياسية المتباعدة، كذلك يُنتظر أن يتضمّن حشواً في ملفّات غير خلافية لا تستأهل أصلاً هذا العَناء والجهد لصَوغِ ورقةٍ سياسية مبتكَرة تُبقي عامل التوقيت غامضاً في كلّ ما يحوط بهذا الحوار، فاللقاء بين عون وجعجع حتميّ على ما يقول الطرفان، تصل نسبة انعقاده إلى مئة في المئة، ولكنّ السؤال متى سينعقد؟ ولماذا تأخّر؟ وهل مِن مصلحةِ الطرفين تأخيره؟ ولماذا؟
الأرجح أنّ كلّاً من عون وجعجع يتحاوران على قاعدة مشاهدة ما يجري من بعيد في المنطقة. فالأوّل لم يتورّط كثيراً في تأييد مواقف حزب الله من اليمن لحسابات تتّصل بموقف السعودية وتأثيرها في الاستحقاق الرئاسي، والثاني أيّدَ حملة «عاصفة الحزم»، ولكن من دون كثير من الحزم، مفضّلاً البقاءَ في منطقةٍ آمنة في انتظار جلاء المشهد، وفي هذه الأثناء يبقى «إعلان النيّات» المنتظَر «الشغلَ الشاغل» في الهموم المسيحية، في سياق العجز عن إعادة بلوَرةِ دورٍ مسيحيّ قوي ومؤثّر.