في النهاية، الرئيس سعد الحريري هو الذي سيؤلف الحكومة، لا سواه كما يهدِّد بعض 8 آذار. الجميع يعرفون ذلك. وفي أي لحظة، قد يفاجأ المشاهدون بحكومةٍ يتمّ فيها تدبير الحصص للجميع فلا يخرج أحد «زعلاناً»… شرط أن تُرضي بعض القوى الخارجية. ولكن حتى ذلك الحين، تَظهر المعركة وكأنها محصورة بطرفين فقط: الرئيس ميشال عون والحريري، وتبلغ المناورة حدود اللعب عند حافة الهاوية، ولكن بالتأكيد لا أحد سيقع فيها!
السؤال البديهي هو: ما الذي أوصل عون (ومعه «التيار الوطني الحرّ») والحريري إلى أن يصبحا «راس براس» في المواجهة السياسية وكأنهما القوّتان الوحيدتان على الساحة الداخلية؟ وفي تعبير أوضح، أين هو دور الطرف الأقوى، أي الثنائي الشيعي، في عملية التأليف؟ وهل يكتفي بدور المتفرِّج على اللعبة بعدما ارتاح الى أنه وحده سيسمّي وزراء الطائفة جميعاً؟
«الكباش» الداخلي يبدو في الظاهر بين عون والحريري، أي بين الرئاستين الأولى والثالثة، وفي طريقة جانبية بين المسيحيين والسنّة. ولكنّ «الكباش» الحقيقي هو الإقليمي والدولي، وتحديداً هو النزاع بين المملكة العربية السعودية من جهة (والمدعومة أميركياً)، وإيران من جهة أخرى. ولهذين المحورين حلفاء كلاسيكيون يخوضون المعارك عنهما في الداخل.
المحور الأول، السعودي المدعوم أميركياً، يمثّله الحريري ومعه فريق من المسيحيين (14 آذار). والمحور الإيراني يمثّله «حزب الله» ومعه فريق من المسيحيين («التيار» وقوى 8 آذار).
اللافت في أزمة تأليف الحكومة أنّ «حزب الله» يغيب عن المواجهة المفترض أن يخوضها ضمن المحور الحليف لإيران، ويترك لـ»التيار»، وعون ضمناً، أن يخوض وحده المواجهة عن هذا المحور، ويكتفي مسيحيو 8 آذار (ودروزها) بـ»المساندة الخلفية».
- يعني ذلك أحد أمرين:
– إمّا أنّ «التيار» يفاوض بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن «حزب الله» في عملية تأليف الحكومة.
– وإمّا أنّ «الحزب» مرتاح إلى أن نفوذه في الحكومة العتيدة، هو وحلفاؤه، سيكون مضموناً. ومن الأفضل له أن لا يستفز بعض القوى العربية والدولية وإثارة حساسياتها بتظهير مطالبته بحصّة وازنة في الحكومة.
من مصلحة «الحزب» أن يترك الولايات المتحدة، في وضعية الاطمئنان إلى أنّ نفوذه «مضبوط» على الساحة الداخلية. وهذا ما قد يدفعها إلى تقليص ضغوطها والحدّ من شروطها تدريجاً. والتجربة أثبتت ذلك.
في مراحل معينة، إشترط الأميركيون عدم توزير «حزب الله». ثم تراجعوا إلى القول بعدم حصوله على الغالبية، مع حلفائه، داخل الحكومة. ثم بدأوا يشترطون عدم تسليم «الحزبيين» وزارات حسّاسة يضطر فيها الأميركيون إلى التواصل معهم والاعتراف بـ«الحزب». ويراهن الأميركيون اليوم على أنّ «التيار الوطني الحرّ» (وضمناً عون) قد لا يكون «حليفاً صافياً» لـ»الحزب» كما القوى الأخرى السائرة في ركابه، وأنّ «التيار» اتخذ مواقف مستقلة عن «الحزب» في ملفات عدة.
وفي المجلس النيابي، قلّصت واشنطن طموحاتها: في البداية كانت تعمل لتبديلات جذرية في الطبقة السياسية تتيح تغييراً في النظام فتعثرت، ثم سَعت إلى منع «حزب الله» وحلفائه من السيطرة على المجلس النيابي فجاءت نتائج الانتخابات الأخيرة لمصلحة «الحزب».
واليوم، يراهن الأميركيون على الفرز بين «الحزب» وحلفائه، واحداً واحداً، وهذه مهمّة صعبة. والدليل هو أنّ «تفاهم مار مخايل» يبقى اليوم أقوى بكثير من «تفاهم معراب». ويقيم الأميركيون علاقات وطيدة مع عون، رأس الدولة، وهو حليف لـ«الحزب».
لكنّ «التيار» الذي يحرص على تطمين «حزب الله» استراتيجياً، يريد أيضاً الحفاظ على الشراكة الحيوية المعقودة مع الحريري منذ 2016. فالرئيس عون و«التيار» يدركان أنهما لا يرتاحان مع أي قطب سنّي آخر في رئاسة الحكومة مثلما يرتاحان اليوم مع الحريري، وأن أحداً لا يوفّر للعهد الغطاء السنّي كما الحريري.
لذلك، يخوض عون مفاوضات التأليف من موقع القادر على محاكاة السنّة والشيعة معاً. وهذا الدور لطالما اضطلع به رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. ولذلك، أعلن الوزير جبران باسيل قبل أيام أنّ دور جنبلاط كـ«بيضة قبان» قد انتهى. ولكن من الضروري التأكيد أنّ تموضع «التيار» الحقيقي هو التحالف مع «حزب الله»، ومن خلال هذا التحالف هو يضبط حدود شراكته مع الحريري، وفقاً للحاجة.
ومن جهته، يسجّل الحريري امتنانه الدائم لعون لأنه اضطلع بدور أساسي في إخراجه من ورطة 4 تشرين الثاني 2107. ولم تشهد علاقات عون والحريري طوال سنة ونصف سنة من عمر الحكومة أي خلافات ذات شأن.
ولذلك، يعرف الحريري أنّ تلويح عون بخطوات دستورية، كسحب التكليف منه، ردّاً على تأخّره في تأليف الحكومة، ليس سوى وسيلة للضغط. ويرى خبراء دستوريون، ومنهم المحامي سعيد مالك، أنّ من الصعب حصر المسؤولية عن التأخّر في تأليف الحكومة للرئيس المكلّف وحده، واتخاذ ذلك حجة لسحب التكليف منه.
وفي الحيثيات التي يشرحونها أنّ مسؤولية التأليف – عملياً- تقع على عاتق رئيسي الجمهورية والحكومة معاً. وعندما يتقدَّم الرئيس المكلّف بصِيَغ حكومية عدة إلى رئيس الجمهورية، ويرفضها، فهل يمكن، في هذه الحال، وبالمفهوم القانوني، تحميل الرئيس المكلف وحده المسؤولية عن عدم اعتماد أي منها وتأليف الحكومة؟
إذاً، في الشكل، عون والحريري «راس براس» في التأليف. وتوحي الحماوة بينهما وكأنّ الآتي أعظم. ولكن، كلٌّ منهما يعرف حدوده ويضبط الأمور لئلّا تفلت من عقالها.
لكنّ الأكثر اطمئناناً يبقى الفريق الشيعي الذي استطاع ببراعته تأمين معادلة مثيرة: فهو اليوم الطرف الأبعد عن معركة التأليف وغبارها، لكنه سيكون الأوفر حظاً في تحقيق الأرباح السياسية… أيّاً تكن صيغة الحكومة التي سيتم استيلادها!