لم يتخلَ الرئيس نبيه بري عن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط في كل مراحل أزمة حادثة قبرشمون. بقي الى جانبه من الدقيقة الاولى لنشوب الخلاف على المجلس العدلي، وحتى لحظة انجاز التسوية في لقاء قصر بعبدا الخماسي، مروراً بكل محطات التفاوض، ليتأكّد مرة أخرى انّ العلاقة بين الرجلين هي اقوى من ان تهدّدها الاختبارات الطارئة.
تمايز بري عن حليفه الاستراتيجي «حزب الله» في الموقف من طريقة مقاربة ملف حادثة قبرشمون والحلول المقترحة له، واستمر ثابتاً على هذا الموقف حتى النهاية، على الرغم من ان وضعه في موقع يتقاطع مع قوى تحمل «روح 14 آذار» مثل «القوات اللبنانية»، في اعتبار انّ الجسد تحلّل منذ وقت طويل.
وبغية تفادي اي استثمار او استغلال للتمايز الموضعي عن «الحزب» حيال هذا الملف، وبالتالي تجنباً للحرج المجاني في لحظة لا تتحمّل ترف العبث السياسي، سعى بري جاهداً الى استبعاد خيار التصويت في مجلس الوزراء على إحالة جريمة قبرشمون الى المجلس العدلي.
بالتأكيد، لم يكن بري راغباً في ان ينقسم الثنائي الشيعي المعروف بتماسكه وصلابته حول وجهة التصويت في مسألة حساسة، ولم يكن يريد ان تبدو حركة «أمل» في خندق سياسي مغاير لذاك الذي يتموضع فيه الحزب وحلفاؤه، إضافة الى انّه وجد ان ليست هناك مصلحة اساساً في إخضاع مجلس الوزراء في هذا التوقيت الدقيق لفرز حاد، الامر الذي يفسّر حماسته الشديدة منذ البداية لمعالجة الأزمة المستجدة من خلال المصارحة والمصالحة بين وليد جنبلاط وطلال ارسلان، وفق ما أفضى اليه المخرج والاخراج في القصر الجمهوري.
أما لو اتخذ سيناريو الاحداث منحى آخر، وتدحرج في اتجاه اعتماد خيار التصويت على المجلس العدلي، فإنّ هناك من يرجّح انّ بري كان سيصوّت عندها الى جانب جنبلاط في رفض الإحالة، على الرغم من «الآثار الجانبية» التي يمكن ان تترتب على هذا القرار.
وليست المرة الاولى التي يقف فيها بري الى جانب جنبلاط، فيعيد خلط الاوراق ويفرض على الآخرين مراجعة الحسابات، منطلقاً من اقتناع لديه بأنّ بقاءه على مسافة قريبة من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي هو افضل من استعدائه، بل انّ رئيس المجلس يميل الى الافتراض انّ جنبلاط لا يُضيّع البوصلة في أغلب الأحيان، وتحديداً عندما تحين لحظة الحقيقة بعد استهلاك هامش المناورات والتكتيكات.
ويمكن القول، إنّ بري استند في «تغطيته» جنبلاط خلال ازمة حادثة قبرشمون الى الاعتبارات الآتية:
– منع العودة الى الانقسامات الحادة بين ما كان يُعرف بفريقي 8 و14 آذار، علماً أنّ بري معروف بتحسسه حيال استنهاض أي فرز من هذا النوع، وهو يعتبر انّ التطورات تجاوزته ولا مصلحة في الرجوع اليه. وعليه، فإن حصول جنبلاط على دعم رئيس المجلس المنتمي الى خط استراتيجي واضح، كفيل وفق معايير عين التينة بتعطيل محاولات إحياء معادلات قديمة، يُفترض انها اصبحت خارج الخدمة.
– الحؤول دون دفع جنبلاط للارتماء في احضان اصحاب الحنين الى خيارات وسياسات طويت مع التحولات المتراكمة، وهؤلاء يعرفون انّ تجديد تحالف 14 آذار بين سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع، او ما يعادله في السياسة، ليس وارداً من دون وجود رئيس الحزب الاشتراكي في طليعة صفوفهم.
– اقتناع بري بأنّ جنبلاط الذي يمثل الاكثرية في طائفته هو جزء حيوي وعضوي من التوازنات الوطنية المرهفة، ما يستوجب التفاهم معه او على الاقل تنظيم الخلاف عند وقوعه، مهما ارتفعت السقوف تحت وطأة الانفعال.
– يفترض رئيس المجلس انّ حماية الجسور السياسية الممتدة بين عين التنية وكليمنصو تفيده في امتلاك قدرة «التأثير الايجابي» على جنبلاط، حين تقتضي الضرورة ذلك، الامر الذي قد يشكّل ضمانة للبعض ممن يرتابون في نيات رئيس الحزب الاشتراكي ورهاناته.
– إنّ تفهم بري هواجس جنبلاط في قضية قبرشمون حال دون حصول اصطفاف شيعي- درزي صاف، كان من شأنه ان يترك تداعيات سياسية وطائفية، بالغة السلبية.
– ان المكانة التي يشغلها رئيس المجلس لدى جنبلاط، تسمح له بتأدية دور الوسيط بين «حزب الله» والحزب الاشتراكي عندما يفترقان، كما حصل بعد مشكلة عين دارة ثم عقب حادثة قبرشمون، ما يدفع البعض الى التأكيد انه لو لم يكن هذا الدور موجوداً لوجب اختراعه.
– يشعر بري انه يشكّل مع الحريري وجنبلاط امتداداً لمعادلة اتفاق الطائف وحصانة سياسية لها، وانّ حماية جنبلاط تعني تلقائياً منع اي محاولة للاخلال في التوازن الذي افرزه هذا الاتفاق، على مستوى ادارة السلطة وتثبيت قواعد الجمهورية الثانية.