قرّر «حزب الله» أن ينحني للعاصفة الأميركية، فأعلن انسحابه من الحدود الشرقية مع سوريا، تاركاً للجيش مهمة الأمن فيها. ومن المثير أن يبقى «الحزب» في الجهة السورية من الحدود، مع جيش الرئيس بشار الأسد، فيما يغادر الحدود من الجهة اللبنانية.
منطقة الحدود موضوعة هذه الأيام تحت رقابة دولية مشددة. ويتحرك الجيش اللبناني هناك بمواكبة مباشرة ودعم بالسلاح والذخائر والمعلومات من الولايات المتحدة التي طلبت تنظيف هذه المنطقة تماماً من كل وجود مسلح لبناني غير شرعي، ومن التنظيمات الإرهابية، بحيث تكون الحدود خاضعة للجيش من دون سواه.
إنه عملياً تنفيذ القرار 1701 في منطقة الحدود مع سوريا. فالقرار ينص في الفقرة التنفيذية 14 على الآتي: «يدعو الحكومة اللبنانية إلى تأمين حدودها والمداخل الأخرى لمنع دخول لبنان الأسلحة أو المعدات المتصلة بها من دون موافقتها.
ويطلب من «اليونيفيل» كما تنص الفقرة 11 تقديم المساعدة إلى الحكومة اللبنانية نزولاً عند طلبها». أي إنّ الجيش اللبناني، في مناطق أخرى، إضافة إلى الجنوب، يمكن أن يحظى بدعم القوات الدولية المدعمة في الجنوب، والتي تقدم المساعدة له برّاً وبحراً وجواً منذ 2006.
ولطالما كان تسليم الجيش أمن الحدود الشرقية مطلباً مُلِحّاً في العديد من المحافل، ولدى الجمهوريين في الولايات المتحدة. وقد تجلّى ذلك بدعم قوى 14 آذار لهذا الخيار عام 2005. لكنّ الدينامية الإيرانية في لبنان والشرق الأوسط حالت دون ذلك، خصوصاً بعد اندلاع الحرب في سوريا وحاجة «حزب الله» إلى استخدام الحدود للمشاركة في القتال الدائر فيها.
اليوم، ينفّذ ترامب القرار 1701 بنحو معلن أو غير معلن. وأظهر الأميركيون عدداً من العلامات على جدية قرارهم، أبرزها استخدامهم قاعدة رياق الجوية العسكرية علناً وللمرة الأولى. ولا بدّ من أن ينعكس إشراف الجيش على كل الحدود، بمواكبة أميركية مباشرة، على دينامية مشاركة «الحزب» في الحرب السورية.
وقد وافق «حزب الله» والإيرانيون تكتياً على التزام الطلب الأميركي لـ4 أسباب رئيسة:
1 – إنّ المهمّة الأساسية التي يبتغيها «الحزب» في سوريا، أي منع سقوط الأسد قد تحققت. وهذا لا يعني أنّ «الحزب» راغب في العودة تماماً إلى لبنان، لأنه والفصائل الأخرى التي تقودها إيران ما زالت تتولى مهمات عسكرية أساسية في مناطق سيطرة الأسد. لكنّ إيران تقبل بالتراجع تكتياً، أي أن تنحني للعاصفة الأميركية ما دام الروس يتكفّلون تماماً مهمة الدفاع عن الأسد.
2 – يرتاح «حزب الله» الى الجيش اللبناني الذي أصبح مسؤولاً عن أمن المنطقة الشرقية بكاملها، أي أنه سيتولّى المسؤولية عن إنهاء وجود «داعش» و»النصرة» في عرسال وجرودها وقطع الإمدادات والتواصل بين هذه المنطقة ومناطق سيطرة التنظيمين في سوريا. ولطالما شغل وضع عرسال وجرودها «حزب الله» وكلّفه كثيراً من الجهد.
3 – يريد «الحزب» توجيه رسالة واضحة إلى الولايات المتحدة بأنه «يعرف حدوده». وهذا الأمر سينعكس هدوءاً في التعاطي الأميركي مع «الحزب» في ما يتعلق بالشأن السياسي في الداخل اللبناني وفي العقوبات المالية المفروضة على «الحزب»، والتي سيؤدي توسيعها إلى حدوث انعكاسات بالغة الأهمية.
4 – ليس انسحاب «حزب الله» من الحدود اللبنانية – السورية سوى جزء من مشهد ترتيب الحدود القائمة بين سوريا والعراق وجوارهما، وترتيب المناطق الآمنة التي نصّ عليها بيان «أستانا 4».
ففي آن معاً يقوم الأردنيون بضبط الحدود في جنوب سوريا، ويعملون لفتح المعبر الوحيد المقفل مع العراق. وفي الموازاة أعلن السوريون والعراقيون أنهم تقدموا خطوات في ترتيب الحدود بين البلدين.
وفي منطق ترامب أنّ ترتيب الحدود مع البلدين، في موازاة خلق المناطق الآمنة في الداخل، سيؤدي مهمة مثلّثة:
– حصر الحروب داخل كل كيان ومنع التداخل بين الكيانات ما يزيد تعقيدها.
– منع تمدّد النفوذ الإيراني عبر الحدود المفتوحة من طهران فبغداد إلى دمشق فبيروت.
– إستيعاب أزمة النازحين المتفاقمة خارج سوريا والعراق، بحيث يمكن الحديث عن بدء خطة عودة النازحين إلى هذه المناطق في مرحلة أولى، ثم عودة كل منهم إلى منطقته.
لكنّ المشكلة في ما يتعلق بالنقطة الأخيرة تكمن في أنّ سوريا بدأت تشهد فرزاً ديموغرافياً على أساس طائفي ومذهبي، بالتوافق. وهذا يعني أنّ ملايين السوريين ربما لن يعودوا إلى مناطقهم الأساسية.
في منطوق القريبين من «حزب الله» أنّ الموجة الأميركية عاتية، وأنّ من الحكمة عدم مواجهة ترامب في لحظة «ثَوَرانه» لمنع قيام أمبراطورية إيرانية في الشرق الأوسط، حتى إيران نفسها. ولا بأس من الانحناء للعاصفة ظرفياً.
ويراهن هؤلاء على أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيمضي في الإمساك بأوراق في الشرق الأوسط، وأنه أيضاً ينتظر أن تهدأ عاصفة ترامب. ومن المرجّح أنّ الروس سيحافظون على حلفائهم، ولا سيما منهم إيران ومصالحها الإقليمية.
ويذهب هؤلاء إلى الاعتقاد أنّ ترامب يبالغ اليوم في مسايرة السعودية لأنها ستشتري سلاحاً من واشنطن بمليارات الدولارات. وهذا العامل سيستفيد منه لتقوية رصيده الداخلي. كما أنّ الانفتاح على السعودية سيقلّص من حجم الانتقادات الموجهة إليه بالعنصرية ضد الإسلام (السنّي خصوصاً).
ويعتقد هؤلاء القريبون من «الحزب» أنّ ترامب يريد أيضاً الردّ على الموجة القائلة إنه جاء إلى الحكم بدعم «مشبوهٍ» من بوتين. ولذلك هو يريد الظهور بمظهر المشاكس ضد السياسة الروسية في الشرق الأوسط. ووفق هؤلاء، قد يجد ترامب نفسه في أيّ لحظة مضطراً إلى عقد صفقةٍ مع طهران، بتشجيع من روسيا.
إذاً، ما فعله «حزب الله» على الحدود الشرقية هو رأس جبل الجليد. وعندما يظهر الجبل، سيتضح تماماً هل كانت خطوة «الحزب» تكتيكاً في خطة صبورة لإسقاط خط ترامب؟ أم انصياعاً اضطرارياً لهذه الخطة؟