Site icon IMLebanon

لماذا لم يصفق «باشو» لميشال عون؟

 

ليس ميشال عون رئيساً نموذجياً بالنسبة لكل اللبنانيين، رغم أنه «وصل» بغالبية من منح اللبنانيون أصواتهم إليهم. غالبية ما يعرف بقوى «14 آذار» انتخبته أمس، إضافة إلى حزب الله، الخصم الرئيسي للفريق الذي ما زال يسمّي نفسه ــــ بجدية وبلا مزاح ــــ «14 آذار». ميشال عون ليس علمانياً بقدر ما هو مسيحي، وليس دخيلاً على النظام. لم يهبط بالباراشوت إنما هو مشارك تقليدي في النظام خلال السنوات الأخيرة تحديداً. لم يسبقه إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية ميشال فوكو، ولا جان بول سارتر. رؤساء لبنان معروفون. ومعروف أيضاً كيف ينتخبون. وهم ليسوا «استقلاليين» أكثر من ميشال عون، أو «ثوريين» أكثر منه، أو حتى «إصلاحيين». لم يكن أحد منهم ضدّ النظام في سوريا. لماذا يتضاعف الهجوم على عون، الذي صار أخيراً، عند كثيرين، «الخطر على الجمهورية»؟

Trendy.

الهجوم على ميشال عون «ترِندي». والكلمة، تعني حدوث «اتجاه» ينمو ويتعاظم، بحيث يصير التعارض معه خطاً كبيراً. والترِند موضة «ليبرالية» تجد حرية الحركة والتطور في المجتمعات «الديموقراطية»، أو التي تفترض أنها كذلك. لبنانياً، يمكن الحديث عن لحظة هزيمة ساطعة لقوى يمثّل ميشال عون كل ما لا ترغب به.

وهذه القوى هي التي ستنتخبه، من تيار المستقبل والقوات اللبنانية وغيرهما. ويمكن الحديث عن عداء «وظيفي» لحزب الله يتستر بالهجوم على عون. في السياسة يمكن الحديث عن تحليلات لا تنضب. بيد أن الهجوم على عون يأتي في زمن «السوشال ميديا»، حيث يصير «الموقف» من عون معيارياً، ويحاول كثيرون أن يصوروا وصول عون إلى الرئاسة على هذا النحو. وهذه «المعيارية»، بالنظر إلى ما كان قبل عون، وما سيأتي بعده في المدى المنظور، لا تفسير لها، سوى أنها «موضة»، قد لا تكون «مدفوعة الأجر دائماً»، كي يقول أحد «نظرية مؤامرة». وكونها «موضة»، فهذا مضر بالفكرة الاعتراضية نفسها، أكثر من كونه مضراً بعون. وهذا دائماً، بالقياس إلى درجة القبول والرفض للرؤساء السابقين للبنان، لا بالقياس إلى جدية النقد لعون، ولأهلية صاحب النقد بالإدلاء به. وهذا ليس ضدّ حرية التعبير، إنما هو دفاع «بسيط» عن المنطق. فلنفترض السيناريو الأكثر سوريالية: الرئيس فؤاد السنيورة مثلاً، ضدّ عون، لأنه (عون) «فاسد». سوريالية، لا؟

في الواقع، لدى المنظرين الديموقراطيين الليبراليين، نظريات «تقدمية للفكر الليبرالي الديموقراطي»، يمكن الاستفادة منها، في معرض قراءة «الاستنفار» ضدّ عون. ودائماً، ليس بوصفه استنفاراً مشروعاً، إنما بقدر ما هو استنفار «غير مسبوق»، يستوقف الناظر إليه. أحد أهم محللي السياسة الخارجية والداخلية الأميركية، والتر ليبمان، الذي كان فخوراً بـ«لجان الدعاية» والتحدث باسم انجازاتها. يقول ليبمان، بلا أي حرج، في إحدى محاضراته، إن «الثورة في فن الديموقراطية، تكمن في تطويع هذا الفن، لخدمة ما يصفه بتصنيع الإجماع، بمعنى جعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس، عن طريق استخدام وسائل دعائية. إنها فكرة جيدة وضرورية». حسب نظرية ليبمان، يمكن لنخبة صغيرة، أو «مجتمع المفكرين»، كما يسمّيه، تتمتع بالذكاء التي يتاح لها فهم وإدراك الأمور، أن تصنع «الرأي العام». وهذه الفكرة ليست ليبرالية حصراً، بمعنى أنها «مؤامرة أميركية للسيطرة على العالم»، كما سيحلو للكثيرين تفسير الأمر. إنها فكرة لينينية أيضاً، بحيث يقول الأخير بوجود طلائع مفكرين ثوريين تستولي على السلطة لتوظيف الثورات الشعبية وتنظم حركة البروليتاريا.

اللافت في «ترند» شيطنة عون، هو أن النقد ليس ضدّ الصيغة، بقدر ما هو ضدّ عون

هناك «نظام ما» يعمل، ولا أحد بمنأى عن هذا النظام. هل هناك «نخبة صغيرة» في لبنان، في الوسط الصحافي أو غيره، تعمل في هذا الإتجاه؟ غالباً الإجابة هي نعم. وهم «أصحاب رأي» بطبيعة الحال، في التعريف السائد. لكن هذا الرأي بعون يستوقف الناظر إليه عندما يقارن بآراء أصحابه بخصوم عون الذين يشبهونه في التركيبة والمنشأ والإنتماء إلى «النظام اللبناني» أحياناً بدرجةٍ أكثر إيغالاً. يتعرض عون لحملة لم يتعرض لها أي رئيس سابق، حتى من الذين جاؤوا في «زمن الوصاية» السورية. ما يرد من مقالات وستاتوسات وانطباعات «هوائية» و«متلفزة»، مفاده: إنتخاب عون حدث جلل، الجمهورية ستنهار. عون خطر على الجمهورية. عون ليس لبنانياً. وكي لا ننسى استرجاع «حادثة البيجاما الزهرية» وابتذالها، مرةً تلو المرة، على مواقع التواصل الإجتماعي. وهناك الحديث بعنصرية عن سِن الرجل، وأحياناً يكون الكلام ذكوريا ويطال زوجته. ليس عون شخصاً نموذجياً، أو مرشحاً نموذجياً، وتجربة فريقه ليست «مثيرة للإعجاب» بنظر كثيرين، حتى أن المقربين منه أفرطوا في استعراضات وصلت أحياناً إلى العنصرية الموصوفة. لكن، هل العنصرية جديدة على اللبنانيين؟ ليست هذه دعوة لقبول العنصرية. ولكن، لماذا استغرابها في الحالة «العونية»، و«تسويغها» و«تمييعها» في الحالة «الكتائبية» مثلاً؟ في أية حال، إليكم الحقيقة المرّة: الشخص النموذجي غير موجود. في الحالة اللبنانية يمكننا الجزم أنه غير موجود. حتى «كليشيه» العهد الشهابي وميزاته لا تصنع من الرئيس فؤاد شهاب رئيساً «نموذجياً». وكي لا يبدو هذا دفاعاً عن عون، إنه بالتحديد بحث في صياغة «ترِند» شيطنة عون، إلى حدٍ مبالغ فيه، كما لو أنه «من خارج الصيغة اللبنانية»، أو أن لبنان كان سيصير ديموقراطياً وإصلاحياً مع جان قهوجي وجان عبيد وهنري حلو. هل كان انتخاب سليمان فرنجية مرشح الحريري الرئيسي، سيجعل لبنان «خارج الوصاية الإيرانية» (وهذه ترِند عنصرية أخرى تتجاهل أن حزب الله يكاد يمثل ربع اللبنانيين)؟ لا إجابة.

يمكن استعادة بدايات عهد إميل لحود أيضاً، لصعوبة استعادة عهد ميشال سليمان، الخالي من أي شيء إلا من السفرات والرحلات الجوية الصاخبة وإعلان بعبدا المضجر. صحيح أنه على أيام إميل لحود لم يكن هناك فايسبوك. ولكن كان لحود «الأمل الجايي». حتى أنه شاهد مباراة نادي الحكمة الرياضي، وصفق له «باشو»، قارع الطبل الحكماوي ــــ القواتي الشهير. بمعنى أن لحود، في بداية وصوله للعهد، لم يكن «خطراً على الجمهورية». ذلك رغم أن آلية وصول لحود، بالمعنى الدستوري، كانت أكثر التباساً، بحيث تم تعديل الدستور، وكان الزمن، «زمن وصاية». ولا نتحدث عن نهاية عهد لحود، ولا عن تقييمه، ولا عن رفض الرافضين له منذ البداية. الحديث هنا عن «المزاج العام»، هذا الذي يحتاج إلى «تفكيك». في وقتٍ من الأوقات، كانت «14 آذار» نفسها حالة «ترندية» بحد ذاتها، على عكس «8 آذار» التي لم تكن في يومٍ من الأيام كذلك. لطالما كانت الأولى براقة وباهية، والثانية باهتة ــــ ويمكننا استخدام بعض المصطلحات الصحافية اللبنانية ــــ لطالما كانت «8 آذار» خشبية. الترِند حالة سياسية لبنانية، قابلة للتطور والحركة في المجتمع اللبناني الذي يَفترض أنه «ديموقراطي». لكن، في أية حال، وعند الحديث عن «انتخاب رئيس»، يمكن السؤال عن ماهية المجتمع الديموقراطي.

ثمة حديث بعنصرية عن سِن الرجل، وأحياناً يكون الكلام ذكوريا ويطال زوجته

في محاولة للإجابة، يمكن الإحالة إلى تعريف تشومسكي. يعتبر المفكر الأميركي الشهير أن هناك مفهومين للديموقراطية. المفهوم الأول يعتبر أن المجتمع الديموقراطي هو المجتمع الذي يملك فيه العامة (الجمهور) الوسائل اللازمة للمشاركة الفعالة في إدارة شؤونهم، وأن تكون وسائل الإعلام منفتحة وحرّة. وإن بحثت عن المعنى اللغوي لكلمة الديموقراطية في القاموس، فستجد التعريف ذاته. أما المفهوم الآخر للديموقراطية، فهو أن يُمنَع العامة من إدارة شؤونهم ومن إدارة وسائل الإعلام التي يجب أن تظل تحت السيطرة المتشددة. والمهم برأي تشومسكي، الفهم، أن هذا هو النظام المعمول به، وأنه يملك أساساً نظرياً. في الشق العملي اللبناني، الشق العملي شهي للبحث الأكاديمي، ورَحْب لدرجة أنه يسمح باستعارات أيضاً. كتاب في صحف «سعودية» فتشوا عن «ضحايا» وصول عون. هناك ضحايا لعون. لا بأس. لكن ماذا عن «ضحايا» الحريرية منذ عشرين عاماً؟ لا يوجد «ضحايا». توجد «أخطاء». الضحايا فقط في الحالة «العونية». آخرون رأوا أن عون هو «رئيس الأسد ونصرالله»، والرجل ليس بعيداً عن هذه الأجواء. لكنه، مرشح سعد الحريري أيضاً. أين ذهب نواب الحريري من المقال؟ تبخروا. ثمة من راجع في صحيفة سعودية «سلوك» العونيين في الحكومات. وهو سلوك يحتاج إلى نقدٍ بلا شك. ولكن أين يختفي النقد في حالة الوزراء الآخرين، لماذا يصير طرياً وهادئاً؟ هناك «ترِند» لا يمكن السير عكسه: عون ليس مقبولاً.

في أوروبا الستينيات، لعبت الإتحادات النقابية دوراً في صناعة «رأي عام»، كذلك الدور الذي لعبته الكنائس في أميركا بعد الحرب العالمية الثانية. الرأي العام، بمعنى أن تختار بين خيارات محددة وموجودة، الرأي العام في الواقع، حسب عالم الإجتماع الفرنسي، بيار بورديو، لا وجود له. هناك نخبة محلية لديها أهداف يتوجب تحقيقها. في بلدٍ يبدو أقل حجماً كلبنان، وفي زمن «التواصل الإجتماعي»، أين هي هذه النخبة؟ جماعة «التوك الشو»، جماعة «الفايسبوك»؟ هذا مخيّب لكنه قد يكون يجانب الصواب في أحيانٍ كثيرة. لا توجد نخبة أكاديمية فاعلة في لبنان. الإجابة العلمية معقدة، لكن «وظيفة» صناعة «رأي عام» محلي، لا تعمل لأهداف لبنانية على نحوٍ خاص، هذا ما يمكن الجزم به. نحن نتحدث عن أموال عربية كبيرة تصرف في هذا الإطار، لتشكيل رأي عام معاد لحزب الله، الذي لا يقف متفرجاً حيال الأمر بدوره. غير أن ما هو لافت أيضاً، في «ترند» شيطنة عون، هو أن النقد ليس ضدّ الصيغة، بقدر ما هو ضدّ عون. إن كان عون مع حزب الله، فأين كان ميشال سليمان يوم السابع من أيّار؟ يسأل «مراقبون». يتوجب الإنتباه، بعد أحداث السابع من أيّار، حدث «إتفاق الدوحة». وهكذا، أصبح ميشال سليمان رئيساً «لطيفاً»، وردد «الطيّبون» جميعهم، وبصوتٍ واحد، إن كان أول الغيث قطرة، فكيف إن كان، قطر؟