للمرّة الثانية، ساهم «حزب الله» في انقاذ الرئيس سعد الحريري من ورطة كبرى، أقلّه حتّى الآن. المرة الأولى، عندما واجه رئيس «تيار المستقبل» أزمته الشهيرة في السعودية، والثانية حين انتفض الناس على الوضع الاقتصادي مطالبين بإسقاط الحكومة. ما هي حسابات الحزب؟ ولماذا تصرّف على هذا النحو؟
لعله يمكن القول إنّ العلاقة بين «حزب الله» والحريري انتقلت بعد «معمودية الشارع» من مرحلة «ربط النزاع» الى مرحلة «التحالف». وإذا كان الشائع أنّ الصديق عند الضيق، إلّا أنّ الحريري اكتشف في لحظة الحقيقة أنّ بعض أصدقائه المفترضين في مجلس الوزراء شدّوا عليه الخناق وتخلّوا عنه في إحدى أصعب مراحل حياته السياسية، بينما هبّ من يقف على الضفة الاستراتيجية الأخرى لنجدته وأصرّ على البقاء معه في المركب نفسه.
وهناك من يلفت الى أنّ الحريري اختبر مرة أخرى نمطاً غير مألوف من السلوك السياسي لدى الحزب، الذي لم يتهرب من تحمل المسؤولية، مع أنّ حصته منها هي الأقل، قياساً بعمر مشاركته في السلطة وحجمها، فيما كان الأسهل عليه ان يقفز من مركب مثقوب ومهدّد بالغرق، خصوصاً أنه لم يكن المتسبّب في تصدّعه.
لقد وقف الحزب الى جانب الحريري في تحمّل تبعات عقود طويلة من الفساد والهدر والمحاصصة والسياسات الاقتصادية والمالية الخاطئة، على الرغم من أنّه لم يكن أحد معارضي هذا النهج فحسب، بل كانت بيئته الاجتماعية إحدى ضحاياه، في حين أنّ الشركاء الحقيقيين في انتاج الأزمة وتفاقمها حاولوا التنصل منها عندما دقت ساعة الحقيقة.
ليس أمراً بسيطاً أو عادياً أن يقرر «حزب الله» الزجّ بكلّ ثقله السياسي والمعنوي للدفاع عن الحريري ومنع سقوطه، خلافاً للمزاج السائد في تظاهرات الشارع. لا يعني ذلك أنّ الحزب في موقع المعترض على الانتفاضة الشعبية، بل هو أحد أكبر الرابحين من ديناميتها، لكنه في الوقت نفسه يتمايز عنها في سقف مطالبها، انطلاقاً من اقتناعه بأنّ الخسائر التي ستترتب على رحيل الحريري ستكون أكبر من بقائه في السلطة.
ولئن كان «حزب الله» والحريري قد تواجها طويلاً في الشارع بدءاً من عام 2005، حيث قاد الأول حراك ساحة 8 آذار والثاني ساحة 14 آذار، فإنّ اللافت بعد انتفاضة 17 تشرين الاول التي جمعت الساحتين أن الحزب والحريري كانا في خندق سياسي واحد، يتشاركان في السرّاء والضرّاء، وصولاً الى مساهمتهما في تشكيل قوة دفع لإقرار «الورقة الإصلاحية» في مجلس الوزراء.
ومن أهم المفاعيل الفورية التي انتجها «احتضان» «حزب الله» للحريري تكريس الطابع السياسي للفرز الحالي، بعيداً من الحساسيات والتصنيفات المذهبية التي طبعت الاصطفافات الداخلية في عدد من المحطات السابقة، بحيث أنّ الالتقاء الشيعي – السني بين الحزب و«تيار المستقبل» حول بقاء الحكومة الحالية والمقاربة العلاجية للأزمة الاقتصادية، كان من أبرز العلامات الفارقة للمشهد الراهن.
وعلى قاعدة التمييز بين المطالب المحقة و«أحصنة طروادة» التي تتلطى بها، بدا الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله حاسماً في رفضه إسقاط العهد والحكومة، بعد قراءة دقيقة للوقائع السياسية والاحتمالات الممكنة.
وتعتبر أوساط متابعة أنّ مجموعة من الأسباب الحيوية دفعت الحزب الى اتخاذ هذا الموقف الذي شكّل مظلة حماية للعهد والحكومة، ويمكن تعدادها كالآتي:
– تجنّب محظور الفراغ الذي يختزن مخاطر جمّة على كلّ المستويات.
– منع الاخلال بالتوازنات الداخلية القائمة والحؤول دون ضرب المعادلة التي أرستها التسوية السياسية – الرئاسية الشهيرة.
– إحباط محاولة بعض القوى السياسية توظيف الحراك الشعبي لخدمة أجندتها السياسية، وتحديداً لقلب الطاولة على العهد بدءاً من حكومته وصولاً الى رئيس الجمهورية، خصوصاً أنّ هذه المحاولة تتعارض وموازين القوى السائدة في الإقليم والداخل على حدّ سواء.
– إفشال رهانات جهات خارجية تزعجها الخيارات الاستراتيجية لرئيس الجمهورية والواقعية السياسية التي يتحلى بها رئيس الحكومة في تعامله مع عون و»حزب الله»، وهذا ما عكسه نمط تغطية بعض وسائل الإعلام العربية للانتفاضة الشعبية وسعيه الى توجيهها نحو استهداف العهد والحزب.
وعليه، يحاول الحزب التوفيق بين تأييده للحراك الجماهيري ودوافعه المشروعة من جهة، وبين حرصه على حماية العهد والحكومة، من جهة أخرى. صحيح، أنّ هذه المعادلة تبدو غير «شعبية» كثيراً في ظلّ نقمة أغلب الناس على السلطة وتوقهم الى التخلص منها، إلّا أنّ الحزب يعتبر أنّ المطلوب في هذه اللحظة التصرف بأعلى قدر ممكن من المسؤولية بعيداً من الانفعال أو الارتجال.
وخلافاً لما يظنه خصومه، فانّ «حزب الله» ليس منزعجاً من استمرار الاحتجاجات الشعبية، كما يؤكد المطلعون على موقفه، كونها تمثل عامل ضغط ورقابة على السلطة للالتزام بتطبيق البنود الاقتصادية والإصلاحية التي أقرتها الحكومة، وهو أساساً إتكأ عليها لحسم إصلاحات ظلّت موضع تجاذب لسنوات، وكذلك للتخفيف من إحراج بعض الحلفاء. المهم بالنسبة الى الحزب، ان تبقى تلك التحركات محصّنة ضدّ التوظيف السياسي ومنضبطة تحت سقف القانون واحترام حقوق الآخرين.