IMLebanon

لماذا يحق لـ53 شركة ما لا يحق للدولة في استثمار ثروتها النفطية؟

من الطبيعي أن يحصل تباين في وجهات النظر حول أفضل السبل لاستثمار ثروة نفطية ما تزال موعودة، ومن البديهي أن أسلم وأفضل أسلوب للتوفيق بين شتى الآراء هو الحوار العلني والصريح، خاصة عندما يطال الموضوع قضية وطنية يتوقف عليها إلى حد كبير مستوى معيشة اللبنانيين.

إلا أنه من المستغرب وغير الطبيعي على الإطلاق أن يُعلن رسمياً العزم على توقيع اتفاقيات استكشاف وإنتاج مع شركات أجنبية قبل نهاية هذا العام، في حين أن تساؤلات أساسية طرحت مؤخراً في المجلس النيابي وفي وسائل الإعلام ما زالت دون جواب، وفي حين أن تصريحات بعض المسؤولين تتضارب بعضها مع بعض، لا بل تنطوي أحياناً على مغالطات غير مقبولة.

من الأمثلة الكثيرة على ذلك ما جاء مؤخراً على لسان السيد وسام شباط، رئيس مجلس إدارة هيئة البترول، في مقابلة نشرتها جريدة “النهار” في 20 نيسان الماضي. فعن سؤال حول الشركات الوهمية التي تم تأهيلها، اكتفى بالقول: “إن هذا الكلام طنان جداً، المقصود منه ضرب صدقية هذا القطاع وصدقية العمل الجدي الذي نقوم به”. وبما أن ما قاله غير واضح، فحبّذا لو تفضل وشرح ذلك بعبارات أقل غموضاً، خاصة أن تصريحه تزامن مع نبأ اختفاء اسم إحدى هذه الشركات الوهمية، صاحبة الرأسمال 1290 دولاراً، من على شاشة رادار هيئة البترول، بعد أن افتضح أمرها في وسائل الإعلام. كما لوحظ أن شركة وهمية أخرى تدعى Petroleb أعادت النظر في “مكانها” وما تزال تتكرّم بتمويل بعض المهرجانات البترولية في بيروت، من نوع “الدولية الثالثة للبترول والغاز” التي ستقام في 9-10 أيار. أما عن السؤال “لماذا ارتأيتم أن لا تدخل الدولة في الدورة الأولى كشريك؟” فقد جاء جواب السيد شباط حرفياً كما يلي: “هذا القرار له بعد اقتصادي يتعلق بالجدوى الاقتصادية، إذ يمكن أن لا يكون هناك إنتاج في محل معين، وتالياً ستخسر الدولة الأموال التي استثمرتها. إلا أن هذا الأمر ليس إلى أبد الآبدبن، فمرسوم تلزيم البلوكات يمكن أن يعدل بمرسوم آخر. إذ عندما نتأكد أن هناك اكتشافات واعدة في البحر، يمكن أن ندخل بنسب معينة لتكون المسألة مضمونة أكثر”! من المدهش أن يرتكب رئيس مجلس إدارة أعلى سلطة بترولية في لبنان، وفي عبارات قليلة، ثلاث مغالطات لا تليق بمركزه: أولها، أن الشريك الأجنبي في عقود تقاسم الإنتاج يتحمّل وحده نفقات الاستكشاف وأن الدولة لا تدفع فلساً واحداً في حال عدم حصول اكتشاف تجاري. والثانية، هي أن حق دخول الدولة كشريك يحدّد عند توقيع العقد، وليس عند التوصل إلى “اكتشافات واعدة” كما قال أو عندما يحلو لها. أما المغالطة الثالثة، فهي أن هذا النوع من الاتفاقيات مع شركات عملاقة هو أشبه ما يكون بمعاهدات دولية، لا تخلق بمجرد مرسوم ولا تلغى أو تعدل بمرسوم آخر! كما تجدر الإشارة إلى أن تأكيد السيد وسام شباط على كون نظام الاستثمار المعتمد في لبنان هو نظام تقاسم الإنتاج، كما يردد وزير الطاقة، يتناقض مع ما قاله رئيس سابق لهيئة البترول نفسها، في مقابلة نشرتها “النهار”، في 17 نيسان 2015، تحت عنوان “الدولة شريكة في الربح، والتكاليف على الشركات”، جاء فيها أن النظام المعتمد هو “نظام وسطي يجمع ما بين نظامي الامتياز والتعاقد”. هذا التناقض وتلك المغالطات تعني أن المسؤولين عن هذا القطاع عازمون على الارتباط باتفاقيات مع شركات بترولية لفترة تمتد على ما يقارب أربعين سنة، على أساس نظام استثمار لم يتفقوا بعد على طبيعته وتسميته، ولم يتبلور مفهومه بعد في أذهان بعضهم! فهل هذا ما ينتظره اللبنانيون من موظفين أوكلت إليهم مسؤوليات بهذا الحجم، ولا يضاهي مغالطات بعضهم سوى عبء مخصصاتهم الفرعونية على خزينة الدولة؟

عينات أخرى من التصريحات المثيرة للقلق، ما ردده مؤخراً وزير الطاقة بخصوص دور الدولة والشفافية. حول الموضوع الأول يبدو أن معاليه مقتنع بأن “الدولة تدخل في كل مفصل من مفاصل الأنشطة البترولية”، مستشهداً على ذلك بشتى المهام الإدارية التي تقوم بها الجهات الرسمية المعنية، خاصة التقارير والتوصيات التي ترفعها هيئة البترول إلى الوزير، وتلك التي يرفعها الوزير إلى مجلس الوزراء. إلا أن الإشكال في ذلك كله هو أن المرسوم 43 قد طرد الدولة، في المادة 5، من كل الأنشطة البترولية، ولم يترك لها على صعيد العمليات الصناعية سوى حق طلب تعيين مجرد “مراقب”، دون حق التصويت، يحضر بعض اجتماعات لجان إدارة الشركات العاملة. مراقب يقتصر دوره على رفع تقارير عمّا يرى ويسمع إلى هيئة البترول التي ترفعها إلى الوزير الذي يرفعها بدوره إلى مجلس الوزراء. فهل يكفي هذا لاعتبار أن الدولة هي شريك فعلي للشركات البترولية العاملة، وأنها تمسك “بكل مفصل من مفاصل الأنشطة البترولية”؟ عفواً يا معالي الوزير، الوصول إلى المفاصل لا يتم عن طريق نظام أسوأ من الامتيازات القديمة التي لم يعد أيّ بلد يفكر بالعودة إليها.

أما عن الشفافية، فيبدو أن معاليه واثق بأنها على أعلى درجة ممكنة، نظراً إلى كون لبنان البلد الوحيد الذي سينضم إلى مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية EITI، حتى قبل بدء الإنتاج، كما قال مراراً في المجلس النيابي وعلى الفضائيات، وهو يهزّ في يده المرسوم 43 الذي “أصبح بمتناول الجميع بدليل نشره في الجريدة الرسمية”. هذا ولكي يفهم بعضنا على البعض الآخر لا بدّ من التذكير بالمعطيات التالية:

أولا، نص مشروع المرسوم بقي سرياً أكثر من ثلاث سنوات ودون أي سبب تبرره المصلحة العامة، وأُقرّ على عجل في 4 كانون الثاني، هذا النص شيء والاتفاقيات المزمع توقيعها مع الشركات هي شيء آخر. الفرق هو أن المرسوم 43 الذي يتم التلويح به أمام مشاهدي الفضائيات هو مجرد “نموذج” لاتفاقيات الاستكشاف والإنتاج (Exploration and Production Agreements- EPA) المزمع عقدها، في حين أن نص الاتفاقيات الفعلية لم ولن يُعلن عنه بالكامل (والوزير أعلم بذلك من غيره) لأنه سيتضمن أحكاماً سرية بغاية الأهمية، تتعلق بشكل خاص بحصة الدولة من الأرباح، وسقف نسبة الاسترداد السنوي لنفقات الشركات العاملة، وما يترتب على ذلك من نتائج على ضريبة الدخل وغيرها. هذه الأمور، وهنا بيت القصيد، ستحددها آلية “المزايدة” وراء الباب بين بعض موظفي وزارة الطاقة وممثلي الشركات المعنية. أما تبرير المادة 35 حول “الالتزام بالسرية” بالقول إنها ضرورية لحماية حقوق الملكية الفكرية أو براءات الاختراع الخاصة بالشركات، فالواقع أن كلّ الشركات المتعددة الجنسية تملك براءات اختراع وما يشابهها، وأنه لا يخطر على بال أحد مطالبتها بالإفشاء عنها. المطلوب هو الإعلان عن الأحكام الخاصة بكل الأمور الأخرى، بما فيها تلك التي تبذل الجهود لإخفائها وراء ستار المزايدات. والمطلوب أيضاً هو موافقة المجلس النيابي على هذه الاتفاقيات، كما يحصل في سائر بلدان العالم، وكما يحصل في لبنان في أمور أقل أهمية من ذلك بكثير.

ثانياً، نية الانضمام إلى منظمة EITI هي، في حال تمّت فعلاً، أفضل من لا شيء، إنما لا تقدّم ولا تؤخر في المرحلة الحالية، إذ إن هذه المنظمة، كغيرها من المنظمات مثل Sherpa أو 0ne أو Publish What You Pay هدفها مكافحة الفساد عبر إلزام الشركات بنشر ما تدفعه للحكومات ومقارنته بما تعلن عنه هذه الأخيرة. لكنها لا تتدخل بالطبع ولا تتعاطى مع ما تقرره هذه الحكومات في مجالات أنظمة وشروط الاستثمار أو اختيار الشركات التي توكل إليها استغلال ثرواتها. لذلك فإن الحديث عن انتماء أو عدم انتماء لبنان إلى منظمة EITI يظل صالحاً للتمويه والتسلية، إن لم تحصل هذه المنظمات على المعلومات اللازمة حول سوء استعمال السلطة وحول “التحالفات” بين الشركات العاملة من جهة وأصحاب السلطة من جهة ثانية. بانتظار ذلك، فالشفافية التي نحن بأشد الحاجة إليها اليوم تقتضي قبل أي شيء آخر الإجابة عن عدد من الأسئلة والإشكاليات أهمها:

– من هم المستشارون المقنعون الذين يقفون وراء معظم أعضاء هيئة البترول، والذين قرروا تزوير القانون البترولي 132/2010 وشلّ دور الدولة في استثمار مواردها البترولية والغازية، خاصة عبر المادة 5 من المرسوم 43 التي جاءت، في خمس كلمات لا غير، كعبوة ناسفة لحقوق ومسؤوليات السلطات اللبنانية في المشاركة الكاملة والفعلية في الأنشطة البترولية؟

– في حين يتباهى بعض المسؤولين بتأهيل 53 شركة يحقّ لها الحصول على حقوق استكشاف وإنتاج، ألا يحقّ التساول عن سبب حرمان الدولة من هذا الحق، عن طريق شركة نفط وطنية كان يجب أن تنشأ في الأمس قبل اليوم، ولم يفت الأوان لإنشائها بأسرع ما يمكن، وتمكينها من المشاركة الفعلية في إطار نظام تقاسم الإنتاج؟ خاصة أن بعض الشركات المؤهلة هي شركات نفط وطنية: جزائرية وقطرية وماليزية وهندية وغيرها. فلماذا يبقى لبنان البلد العربي الوحيد، من المحيط إلى الخليج، دون شركة نفط وطنية؟ وما الذي ينقص اللبنانيين كي ينجحوا مثل، أو حتى أفضل مما نجح القطريون والجزائريون والإيرانيون والكويتيون واليمنيون… إلخ؟ ما ينقصنا هو الإرادة السياسية ووجود إدارات رسمية عقيمة أو فاسدة، أصبحت تشكل حاجزاً منيعاً على طريق نهوض لبنان إلى مستوى حاجات وآمال مواطنيه.

هذا مع العلم أن اهتمام عشرات الشركات البترولية الأجنبية بلبنان مردّه ليس “الحوكمة المميزة” كما يقال، بل تعاسة حوكمة هذا القطاع والتصرفات العبثية التي تهدف إلى سلب حقوق ملكية وإنتاج البترول والغاز المكتشف من الدولة، لتعطيها لشركات أجنبية ولسماسرة، في إطار “شراكة تجارية غير مندمجة” وفق المادة 5 من دفتر الشروط. شراكة قوامها ثلاث شركات على الأقل، بما فيها الشركات الوهمية والصغيرة والمارقة، مما يتيح إمكانية التواطؤ مع مصالح خاصة محلية. هذا عوضاً عن أن يكون شريك “المشغل” (Operator) الأجنبي الوحيد شركة نفط وطنية تمثل الدولة وكلّ اللبنانيين، وتخضع بطبيعة الحال لمراقبة المجلس النيابي والهيئات المختصة. ولا بد لتحقيق ذلك من تصحيح ما حصل من انحرافات، واحترام أحكام القانون البترولي، واسترجاع المجلس النيابي لما سلب منه من صلاحيات التشريع والرقابة.

هذه البديهيات لا يمكن أن يطمسها التعتيم ولا اللف والدوران ولا المغالطات ولا شتى وسائل التمويه والتضليل، بغية نهب ثروة لبنان الموعودة. خاصة أن حبل التضليل ليس أطول من حبل آخر لا يحتاج إلى التعريف.