هذا الجو الضبابي مؤسف، بل موجع، مع ما يرافقه من بلبلة واضطراب وتبادل الإتهامات والتهديدات! لقد حقق هذا الوطن الصغير المعذّب إنتصاراً جديراً بالكبار الكبار. بل إن بلداناً «كبيرة» عجزت عن تحقيق مثيل له. فماذا بنا نطوي صفحته البيضاء المبهرة وكأنه لم يكن. بل كأنه كان هزيمة.
نحن نفهم الحزن والقهر على جنودنا الشهداء… وعلى من سبقهم الى مجد الشهادة من ضباط ورتباء وعناصر سقطوا في جرود عرسال منذ ذلك الثاني من آب المشؤوم وحتى تحقيق النصر المؤزّر. ونفهم أكثر فأكثر مشاعر ذوي الشهداء، وقد أعلنا ونعلن إنضمامنا الى آلام جراح قلوبهم. والى مشاعرهم التي جعلتهم يعانون سنوات ثلاثاً عاشوها في القلق واللاإستقرار والأمل الذي تبيّن أنه لم يكن في موضعه(…).
إلاّ أن هذا كله لم يكن ولا يجوز أن يكون ممحاة للنصر الكبير الذي حققه الجيش البطل في تلك الجرود الجرداء القاحلة، وقد حسموا المعركة منذ الساعات الثلاث الأولى في ما عجزت عنه جيوش الدول العظمى وائتلافات من 80 دولة في العراق ومن 60 دولة في سوريا، ناهيك بكل من وما إنضم الى المعركة ضدّ الإرهاب الذي عرفته هذه المنطقة من العالم في السنوات الثلاث الماضية ولـمّا تزلْ جراء الوحشية المفرطة اللامسبوقة التي مارسها إرهابيون أقل ما يقال فيهم إنهم وحوش كاسرة ليس يجمعهم بالإنسان سوى المظهر الخارجي!
وكان النصر الذي ما إن تحقق بجدارة واستحقاق، وبكثير من الحرفية والبسالة والتضحية، حتى عادت حليمة أهل السياسة الى عادتها القديمة، فإذا زهوة الإنتصار تُغَيَّبُ تحت هذا الكم من الخلافات. وإذا فرح الإنتصار يُغيّب تحت هذا الكمّ من الأحقاد والضغائن.
عادت حليمة وعادت معها الإتهامات، والتفتيش بالفتيلة والسراج عن ثغرة هنا (واختراعها إذا لم تكن موجودة)، وعن هفوة هناك (نصرّ على إيجادها حتى لو لم يكن لها أساس)، وعن مشكلة قديمة نحييها أو أخرى نستحدثها.
إنه النصر يا قوم.
إنه ما تسعى إليه الدول والأمم لتبتكره إذا لم يكن فعلياً.
أمّا النصر الذي حققه جيشنا فهو حال بطولة وبسالة وإقدام وتضحية وبذل بكل ما للكلمة من معنى. وهو إكليل غار ليس فقط على هامة كل شهيد بل أيضاً على هامات قائد الجيش وضباطه ورتبائه وجنوده الميامين. وهو بداية عصر جديد كتبه جيشنا بالجهد، والعلم، واستيعاب الأسلحة الحديثة، والمناقبية، والإنضباط، خصوصاً بالإنطلاق من الدور والرسالة لإفتداء الوطن.
وبدلاً من أن نفتح صدورنا لنتقبل نسيم الإنتصار المنعش، ونتنشق عبير عطر غاره، إذ بنا نقبع في كهوف الخلافات والأحقاد ونفتح الدفاتر العتيقة ما كان منها صحيحاً وما لم يكن لنفقد هذا الإنتصار نكهته العطرة وطعمه اللذيذ.
يا قوم، اتركوا للتحقيق أن يأخذ مداه بعيداً عن الكيدية وتذوّقوا، معنا، طعم الإنتصار.