للمرّة الخامسة والثلاثين، تكرّرت دعوة رئيس المجلس النيابي لانتخاب رئيس للجمهورية، وحالَ فقدانُ النصاب 34 مرّة متتالية دون اكتمال عقدِ الجلسة، وهذا ما أظهرَ استحالة وصول أيّ مِن المرشحين الحاليين إلى قصر بعبدا. فما الذي يَحول دون البحث عن أسماء مرشّحين جُدد؟ وهل يمكن أن يتمّ ذلك؟ وكيف؟
تُراقب مراجع ديبلوماسية باستغراب مسلسل الجلسات التي خُصّصت لانتخاب رئيس للجمهورية، والذي تجاوز كلّ التوقّعات، فاستحقّ دخولَ كتاب «غينيس». ووصَل الأمر بأحد الديبلوماسيين إلى الدعوة والتبشير بـ«التجربة اللبنانية» الفريدة على خلفياتها «الدستورية – الديموقراطية».
وقد بدأ يبشّر بنوع من «الحياة الديموقراطية اللبنانية» التي لم تعرفها أيّ دولة أخرى في العالم، وملخَّصُها يَكمن في وجود خليط مميّز من السياسة والدستور، وشيء ما مِن التزام اللبنانيين لنوع من الحرّية والديموقراطية التوافقية المبنية على معادلات سياسية وطائفية ومذهبية وعلى موازين قوّة داخلية لا علاقة لها بالدستور، ولا تعيره أهمّية.
ويضيف هذا الديبلوماسي أنّ استمرار تجاهل ما يقول به الدستور في ظلّ انقسام عمودي على تفسيره، أدّى إلى قراءات متناقضة لمواده، وخصوصاً تلك التي تتحكّم بانتخاب الرئيس، ما سَمح لكلّ طرَف أن يتباهى بالتزامه مضمونَها ملقياً اللومَ على الطرف الآخر، في ظلّ غياب حوار هادف إلى توحيد الرؤية والموقف حول آليّة تؤدّي إلى ملء الشغور.
ويَلفت الديبلوماسي نفسه إلى أنه لجَأ إلى مرجع دستوري، فهَداه إلى تبرير ما يحصل بمنطق دستوري محايد، فقال: «إنّ دستورنا كلّفَ مجلس النواب الذي يشكّل الهيئة الناخبة للرئيس العتيد مهمّةَ تفسير مواده، وها هو المجلس يمارس هذه المهمّة منقسماً على نفسه، ما يَحول دون توحيد الموقف والرأي.
عند هذه النقطة يَستطرد الديبلوماسي ليقول إنّه لم يَفهم ما يجري إلّا مِن زاوية واحدة دفعَته إلى البحث في القاموس الدستوري فلم يَجد فيه العبارات التي تتكرّر على ألسنة القيادات السياسية والحزبية المتعاطية مع الأزمة بأشكال مختلفة صنّفَها وفق الآتي:
– فئة تقرأ التطوّرات المتلاحقة بعصَبية فائقة متألّمة تخاف على مستقبل البلاد ومصير المؤسسات الدستورية التي يهدّدها الشغور الرئاسي، وتحديداً عندما ترى الشللَ في مجلس النواب الذي لا يقوم بدوره التشريعي على الأقلّ، إضافةً إلى حكومة فاشلة تعمل على القطعة
– فئة تراقب ببرودة أعصاب وتقرأ ما يَحدث بأنّه نموذج جديد، وتَختبر في ممارستها السلطة مقولة «إنّ السياسة فنّ الممكن» وما يمكن أن تجنيه في هذه الفترة لا يمكن أن تحصده في أيّ مناسبة أخرى
.
-فئة تُبدي ارتياحاً مفرطاً، كون ما يَحدث سيقود إلى إعادة نظر في التركيبة السلطوية في البلاد يوماً ما. فكلّ ما يجري يكرّس تقاليد وأعرافاً ستتحوّل إلى مرتبة تفوق الدستور أهمّيةً وفيها ما يكفي لتحقيق أحلام ومشاريع بعيدة المدى لا يمكن بلوغها في نظام معقّد كالنظام اللبناني سوى في فترات طويلة من الممارسة غير الدستورية ليعتادها اللبنانيون إلى اللحظة التي يمكن أن تتحوّل فيها حقائق ووقائع بقوّة قادر.
–
فئة لا يهمّها ما يحصل البتّة، وترى في إطالة الأزمة ما يَسمح لها بتحقيق مصالحها أيّاً كانت النتائج المترتّبة عليها. فالبلد تحوّلَ محطةً لاستثمارات موَقّتة يمكن الانتقال بها في حقيبة سَفر إلى أيّ مكان وفي أيّ وقت.
على هذه الخلفيات، وبعدما تركَ الديبلوماسي لمستمعيه تصنيفَ اللبنانيين بأسمائهم وفقَ الفئات التي حدّدها، ينتهي إلى القول إنّه كان يرغب في ممارسة مهمّاته الديبلوماسية في بلد يُشعِره بالرغبة في استكشاف اليوم التالي لكل حَدث، فإذا به يقع فريسة روتين ممِلّ، خصوصاً في المرحلة التي تنتقل فيها القيادات السياسية بمواقفِها واستراتيجيتها من مقلب إلى آخر، ويتبادلون الدعم لحلقةٍ مقفلة من المرشّحين في ظلّ عجزٍ متمادٍ يَمنع أحدهم من إتمام الاستحقاق للفوز بمرشّحه، فيما المطلوب للخروجِ من هذا الروتين القاتل عكس الخيارات المعتمدة بتغيير المرشّحين طالما إنّ الجميع سلّمَ بهوية المرشِحين