لم يشهد لبنان في تاريخه القديم والحديث ما يشهده اليوم مع طبقة سياسية فاشلة لا بل مفلسة وفي زمن رديء… فلا هي تتفق على ما يخرج لبنان من أزماته المتناسلة، واذا اتفقت فهي لا تعرف من أين تبدأ، واذا بدأت فلا تعرف كيف تنتهي ومتى. فإذا بدأت بانتخاب رئيس للجمهورية فلا يكتمل النصاب، واذا بدأت بقانون الانتخاب فلا تتفق عليه فيبقى تشريع الضرورة لا ضرورة له حتى وإن كان يهم الناس.
لقد حضرت هذه الطبقة السياسية جلسة نيابية وكانت الوحيدة التي ا كتمل فيها النصاب لانتخاب رئيس للجمهورية، لكنها لم تتفق على انتخابه وأخذت بعدها تعطّل نصاب كل جلسة ربما الى حين تصبح إيران في وضع القادر على قول كلمتها في انتخابه، وها قد مضى ما يُقارب السنتين على الشغور الرئاسي وايران لم تقل كلمتها، وأخذ استمرار الشغور الرئاسي يعطّل عمل الحكومة وعمل مجلس النواب بعدما تقرر أن لا تشريع الا بعد انتخاب رئيس للجمهورية، وصار فريق من النواب أسير هذا الموقف، في حين أن أولويات الناس هي الاهتمام بأوضاعهم الاقتصادية والمالية والمعيشية التي تضغط في اتجاه تشريع الضرورة، وقد عقدت جلسة لهذه الغاية، ثم صار عقد أي جلسة أخرى مرتبطاً باقرار قانون الانتخابات الذي لم يتم التوصل الى اتفاق عليه رغم جلسات عدة للجنة البرلمانية الخاصة، بحيث باتت لدى مجلس النواب مشاريع قوانين عديدة ولا اتفاق على واحدة منها، حتى اذا ما طرحت على التصويت بات يخشى أن تصوّت الأكثرية النيابية المطلوبة على مشروع قد لا يكون مقبولاً من فريق له وزنه، وهو ما قد يجعل الرئيس نبيه بري يتردد في حسم الخلاف على المشاريع الانتخابية العديدة بالتصويت قبل أن يتم التوصل الى اتفاق على مشاريع محدودة ومقبولة حتى اذا ما طرحت على التصويت لا تكون لنتائجه ردود فعل سلبية. وكان يؤمل أن يتوصل اقطاب الحوار الى اتفاق على تشريع الضرورة، لكنهم اختلفوا على ترتيب الاولويات التي تفتح الباب على هذا التشريع. هل تكون الاولوية لانتخاب الرئيس ومن يضمن اكتمال النصاب؟ أم تكون لقانون الانتخابات ومن يضمن الاتفاق عليه لئلا تنتهي الجلسة بخلاف؟
إن الرئيس بري ينتظر ما ستتفق عليه الأحزاب والكتل ليتخذ قراره، مذكراً بأنه سبق لمجلس النواب أن قرر عدم التشريع إلا بعد انتخاب رئيس للجمهورية، وهذا يتناقض وقرار جعل الأولوية لاقرار قانون للانتخابات النيابية قبل الانتخابات الرئاسية وقبل تشريع الضرورة، الأمر الذي يعيد الجدل حول أن تكون الدجاجة قبل البيضة أم البيضة قبل الدجاجة فيما الشعب لا يهمه سوى أن يأكل بيضاً ودجاجاً… ولكن من أين له هذا مع رجال لا بيض لهم؟!
ويتساءل بعض المراقبين: لماذا لا تتفق الأحزاب والكتل على تخصيص جلسة لاقرار مشروع قانون للانتخابات النيابية شرط أن يكون مدخلا لعقد جلسة تخصص لانتخاب رئيس للجمهورية وفي اليوم ذاته؟ فمتى كان قانون الانتخابات عادلاً ومتوازناً، حتى لو أدى الأمر الى طرح كل المشاريع المحالة على المجلس على التصويت، فإنه يسهل انتخاب رئيس هو أكثر ضرورة من أي تشريع. واذا كان اقرار مشروع قانون الانتخابات النيابية يسهل انتخاب رئيس للجمهورية فلأن أحزاباً يهمها أن تطمئن الى شكل هذا المشروع الذي لا يقل أهمية في نظرها عن انتخاب الرئيس. فولاية الرئيس محددة بست سنوات في حين أن قانون الانتخابات النيابية يبقى ساري المفعول الى أجل غير معروف، والاحزاب التي تفوز بانتخابات تجرى على أساسه تستطيع أن تأتي بمن تريد رئيساً للجمهورية وأن تتحكم بتشكيل الحكومات وبقراراتها والتحكّم أيضاً بنتائج التصويت على المشاريع التي تطرح على المجلس النيابي. فهل ثمة أمل في أن يأتي الفرج على يد طبقة سياسية لا تتفق على شيء اذا لم يكن يخدم مصلحتها؟ فلا هي تتفق على رئيس للجمهورية لأن كل مرشح يريد أن يكون هو الرئيس، ولا هي تتفق على قانون للانتخابات اذا لم يكن على قياسها، ولا تتفق على تشريع الضرورة خدمة للبلاد والعباد ما لم ينتخب رئيس، ولا هي تتفق على انتخابه، وما لم يقر قانون للانتخابات لا تتفق عليه ايضاً في انتظار أن يصدر القرار من الخارج فينصاع له الجميع.
المطلوب إذاً من الاحزاب المسيحية خصوصاً أن تتفق على عقد جلسة لاقرار مشروع للانتخابات النيابية بتأمين نصابها نظراً لاهتمام كل النواب به، في حين أن عقد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية قد لا يكتمل نصابها فيعود الدوران في الحلقة المفرغة. وبعد اقرار مشروع قانون الانتخابات النيابية ترفع الجلسة نصف ساعة لتعقد جلسة تخصص لانتخاب رئيس للجمهورية للاستفادة من النصاب المكتمل في جلسة قانون الانتخاب، فانتخاب الرئيس هو اكثر ضرورة من أي مشروع آخر. فإذا أفقد نواب النصاب بعد إقرار قانون الانتخابات ليحولوا دون انتخاب رئيس للجمهورية فإنهم يتحملون عندئذ علناً المسؤولية الكاملة أمام الله والوطن والتاريخ، ويبقى قانون الانتخابات رغم اقراره غير نافذ الى أن يوقعه رئيس الجمهورية، ويكون هؤلاء النواب هم الذين ادخلوا لبنان في الفراغ الشامل بعدم انتخاب رئيس وبعدم الاتفاق على قانون الانتخابات وبعدم القبول بتشريع الضرورة.