التفاهم الأميركي ـ الروسي كاد أن يكون بدايةً جيّدة لإطلاق مرحلة سياسية وأمنية جديدة في التعامل مع مسار الأزمة السورية، وليس عقدة حلب وحدها، لكنّها فرحة لم تكتمل.
ما الذي منع دخول الاتفاقية حيّز التنفيذ؟ إذا لم نشأ القول إنّ الاتفاقية نفسها كانت مسرحية اميركية ـ روسية ومضيَعة للوقت ومحاولة للإيحاء بأنّ واشنطن وموسكو يهمّهما حقاً وقفُ النار والاقتتال في حلب وفي سوريا والبحث عن حلّ سياسي للأزمة.
تفاهُم الكبار كان يتحدّث عن مشروع وقفِِ لإطلاق النار بين المتحاربين، لكن مشكلته كانت أنّه لا يحمل أيّ ضمانات حول آلية حماية تنفيذ الخطة وموضوع الانتقال إلى مرحلة سياسية دستورية وطنية جديدة بينها رحيل الرئيس بشّار الأسد وما بعده.
إتفاق يفتح الطريق أمام تعاون عسكري روسي ـ أميركي ويعطي روسيا المشروعية التي كانت تبحث عنها لاستهداف من تريد تحت ذريعة محاربة المجموعات الإرهابية، وهذا ما استنتجَته على ما يبدو واشنطن خلال اللعب في دقائق الوقت الضائع من المباراة.
هناك من قال وقتها إنّ دعم الاتفاق ضرورة لحماية إنجازات «درع الفرات»، وفتح الطريق أمام تمدّد «الجيش السوري الحر» في شمال سوريا والدفاع عن دوره في المعادلات السياسية والأمنية المقبلة في خريطة سوريا الجديدة، لكن سرعان ما تكشّفت الجوانب الغامضة في التفاهم بين اللاعبين الكبيرَين اللذين دخَلا في مواجهة حول توفير الدعم الدولي له من دون الكشف عن بنوده حتى للشركاء والحلفاء، فسقط متهاوياً على أدراج مدخل مجلس الأمن قبل أن يقول الأخير رأيه فيه.
أبسط مواد الاتفاقية ومنها هدنة عيد الأضحى، والتعهّدات بفتح الممرّات الآمنة أمام إدخال المساعدات الغذائية إلى حلب حتى، لم تحمل الفرحة والطمأنينة إلى قلوب أطفال المدينة الذين قصِفوا في ملاجئهم بعد أيام فقط على كلّ هذا الضجيج الاميركي – الروسي خريطة الأولويات تخلط الأوراق مجدّداً في مسألة الحرب على «داعش» على الجبهتين السورية والعراقية.
واشنطن لا تريد ان تقول كثيراً وهي ذاهبة الى صناديق الانتخابات الرئاسية، وموسكو والنظام في دمشق يريدان حسم معركة حلب قبل الموافقة على انطلاق العمليات في «الباب» ثمّ «الرقّة» والموصل.
عندما يقول الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية التركية ابراهيم قالين، وقبَيل ساعات فقط من وصول نائب وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكين إلى أنقرة إنّ البحث عن سُبل إقامة «منطقة آمنة» في سوريا، أفضل سياسياً وأخلاقياً من التوسّل لنظام الأسد لوقفِ إطلاق النار.
وعندما يؤكّد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أنّه ما زال هناك نحو 200 عنصر من تنظيم «وحدات الحماية» الكردية في مدينة منبج، وأنّ المسؤولين الاميركيين، إمّا أنّهم غير قادرين على إخضاع هذه القوات في شمال سوريا لأوامرهم، أو أنّهم لا يريدون لها الانسحاب من المدينة، فهذا يعكس مرّةً أُخرى حجم التوتّر المستمر بين أنقرة وواشنطن في موضوع الموقف الأميركي الداعم لحزب الاتّحاد الديموقراطي الكردي، وبالتالي صعوبة الوصول تركيّاً وأميركيّاً إلى موقف موحّد للرد على مجازر حلب.
كذلك يعني أنّ العلاقات التركية ـ الأميركية التي تراجعَت أخيراً بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في 15 تمّوز، وحيث رأت غالبية الأتراك أنّ الولايات المتحدة الاميركية هي التي خططت له، وحيث ما زالت واشنطن ترفض تسليم المتهم الأوّل بتدبيره فتح الله غولن لتركيا، هذه العلاقات لن تعود إلى سابق عهدها بهذه البساطة، وأنّ الحكومة التركيّة لن تساوم الإدارة الأميركية الحالية على مطلبها في إنشاء هذه المنطقة التي ترى فيها فرصةً لقلب المعادلات السياسية والعسكرية في مسار الأزمة السوريّة، بل على العكس من ذلك، هي تذكّر واشنطن بأنّها هي العقبة الوحيدة اليوم امام هذا الاقتراح التركي الذي دعَمته فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
تقارير أمنية تركيّة تتحدّث عن عمليات تنفّذها الوحدات الخاصة الأميركية في شمال سوريا بنحوٍ منفصل في تحديد أماكن وجود «داعش»، لمهاجمتها بالتنسيق مع قوى معارضة سوريّة لعبَت هي دوراً أساسياً في تشكيلها وتسليحها وتجهيزها.
العمليات ستكون تحديداً في قطعةٍ جغرافية تشمل مثلّث مارع ـ جبرين ـ كفر كلبين. هذا هو ربّما أكثر ما يمكن الرهان عليه في تحوّلات الموقف الأميركي في سوريا الذي لا يريد أن يرى ما يجري في حلب، ناهيك عن انّ البعض يردّد أنّ مِن المستبعد انتظار تحوّل حقيقي راديكالي في السياسة الأميركية في سوريا. فبغضّ النظر عمّن سيكون الرئيس القادم، هناك سؤال آخر حول معرفة حقيقة ما تريده واشنطن في سوريا.
لا يمكن بعد الآن الفصل بين الجبهات العسكرية الساخنة في سوريا والعراق. ما يجري على جبهات «الباب» وحلب مرتبط مباشرةً بما سيدور على جبهات الرقة والموصل، وهو متداخل لناحية الحسابات والمصالح والمساومات الإقليمية والدولية.
الأولوية ستكون لمعركة «الباب» لكنّ المراحل اللاحقة متشابكة إلى درجة لا يعرف أحد كيف ستتقدّم وتُحسم على الأرض. سيطرة النظام والروس على حلب مقابل تقدّم تركي بالتنسيق مع «الجيش السوري الحر» نحو الرقة مثلاً؟
حصة أميركا وإيران أين ستكون في الموصل إذاً؟ طهران قد تعطي الأولوية للعراق ونفوذها ومصالحها هناك بعدما تشابك الملف السوري.
علينا دائماً أن لا ننسى أنّ تنظيم «داعش» لن يتراجع ويَستسلم بمِثل هذه البساطة وأنّه سيقاوم بشراسة في محيط «الباب» أوّلاً، وتحديداً في مرج دابق التي يعطيها الأهمّية العقائدية والفكرية في أدبياته ثمّ في «الباب» التي تُعتبر خطوطه الأمامية في معركة الرقّة، ثمّ الرقّة قلبه النابض في سوريا.
نقطة الخلاف الأساسية في النقاشات بين تركيا وواشنطن، وأيضاً بين واشنطن وموسكو هي حول من هو الذي سيملأ الفراغ الجغرافي الحاصل بعد إخراج «داعش» من الرقة وجوارها، وكيف ستتمّ عملية تنظيم العلاقة بين وحدات «الجيش السوري الحر» في الباب بعد السيطرة عليها وبين قوات النظام السوري ومن يدعمها، والموجودة هي الأخرى على مقربة من المدينة؟
من الذي سيرتدي لباس «داعش» الجديد بعد القضاء عليه في الرقة والباب، ومن سيحاول أن يلعب دوره هذه المرّة؟
مرحلة ما بعد «داعش» سيكون لها حتماً علاقة بمسألة من الذي يحارب «داعش» ومن الذي يسيطر على الأرض، لذلك نرى حالة عدم الثقة والتردّد والارتباك تتقدّم على كثير من النقاشات والتفاهمات المعلنة.
الواضح هنا أنّ هناك حسابات مستقلة لكثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين على الساحتين السوريّة والعراقية، لكنّ المؤكّد هو انعدام وجود التنسيق والتفاهم بين هذه القوى على قواسم مشتركة تحدّد مسار الأمور وترسم معالم سوريا والعراق، وهذا يعني رغبة البعض في السير بالبلدين نحو مغامرة التفتيت والشرذمة.
الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد ابو الغيط يرى اليوم، وأمام محرقة حلب، أنّ إنشاء نظام فيدرالي في سوريا هو الحلّ البديل، بدل هذا التدمير وظهور الدويلات، وإنقاذاً لوحدة سوريا ومؤسساتها وتمثيل جميع السوريين فيها.
معاون الرئيس التركي رجب طيب اردوغان السفير ابراهيم قالين يذهب أبعد من ذلك بكثير حين يتحدّث عن السياسة العالمية المحزنة المتّبَعة حالياً في سوريا والتي يرى فيها أنّها تفتقر إلى الرؤية الأخلاقية، و»أن ليس من دواعي السرور أن نكتشف أنّ إنسانيتنا تموت مع موت الشعب السوري، وهذا أكبر عيب إنساني على الإطلاق».