كلام في السياسة |
الواضح أن انقلابين متتاليين حصلا في الرياض، في غضون أسبوع واحد. الانقلاب الأول عائلي. أما الثاني فأميركي. الأول حُكي عنه الكثير. أما الثاني فلا تزال معالمه قيد التحضير.
لائحة أساسية من التعيينات والتغييرات الجذرية، أصدرها الملك السعودي الجديد، سلمان، بعد ساعات قليلة على وفاة شقيقه الملك الراحل عبدالله. منها انتقال مقرن ليصير ولياً للعهد.
ومنها بشكل أساسي تعيين محمد بن نايف ولياً لولي العهد. وهو التعيين الذي قلب سيناريو المخطط الطويل والبطيء الذي قيل إن عبدالله كان قد أمضى أعواماً يحضر له. والذي كانت التصورات حوله تقول بأن يموت سلمان قبل عبدالله. فيصير مقرن ــ غير السديري ــ ملكاً بعد عبدالله. ويصير معه متعب نجل عبدالله الوريث، فيحقق الأخير هدفين اثنين: إقصاء السديريين، وضمان سيطرة أبنائه على السلطة. سيناريو انتهى بعد لحظات على وفاة عبدالله. لحظة أصدر سلمان قراره بتعيين محمد بن نايف، في منصب وريث المستقبل والجيل السعودي الثالث. هكذا بدا واضحاً أن هذا الانقلاب الأول عائلي الطابع والدوافع. فسلمان ليس جديداً في بلاط سلطة الرياض. لا بل يقال إنه أكثر العارفين بأسراره من الأحياء. فهو رافق كواليس القصر منذ أربعين عاماً كاملة. منذ عهد خالد الذي تسلم الحكم عقب اغتيال فيصل سنة 1975. وهو كان في صلب دائرة القرار منذ كان أميراً لمنطقة الرياض، حيث كان أميراً حاكماً فعلياً للعاصمة وما فيها من أسرار ودوائر. ثم إن سلمان أكثر أبناء عبد العزيز تعلماً، منهجياً، كما تجارب. وهو قُدِّر له أن يعايش عهود خالد وفهد وعبدالله، مع مدّ يد كل عهد على سابقه، حياً أوميتاً. عاش كيف حكم فهد في ظل مرض خالد. وكيف حكم عبدالله في ظل عجز فهد. وعاش في ظل سيطرة عبدالله الكاملة والمطلقة، ومحاولة التفرد والاستئثار…
كل هذه كانت حاضرة في ذهن سلمان في الأعوام الأخيرة. وكان المفصل الفارق بين سلطتين، سلطة الموت لا غير. لو مات سلمان قبل عبدالله، لكان كل المعيّنين اليوم، منفيين. لكن الموت كان سباقاً إلى عبدالله، فصار منفيو الأمس مسؤولي اليوم. إنه انقلاب العائلة لا غير، لكن انقلاباً آخر تلاه.
إنه انقلاب ذكرى أسبوع الرحيل والخلافة. وهو الانقلاب المختلف الدافع والهدف. إنه انقلاب أوباما. بل هو الحركة التصحيحية الأميركية الثانية في الرياض. ففي تعبير مجازي، على طريقة الرسم الانطباعي، يمكن القول إن حجم الوفد الذي ترأسه أوباما في زيارته الأخيرة للسعودية، لا يوازيه إلا حجم الخارجين من دوائر الحكم فيها بعد الزيارة. ثلاثون شخصاً جاءوا مع الرئيس الأميركي إلى الرياض. وأكثر من ثلاثين خرجوا بعدها من قصور حكمها ودوائر قرارها. وصول وخروج، أرادته واشنطن، لأسباب سياسية أولاً، ولبعض الأسباب الشخصية ربما.
في السياسة، بات ثابتاً أن لأميركا في هذا الزمن الإسلامي العربي والخليجي تحديداً، أولويات واضحة. أولها مواجهة التكفير الأصولي والإرهاب المتطرف. أولوية تدور حولها كل سلوكيات واشنطن في المنطقة. فيوم تخلت عن حلفائها العسكريتاريين، إنما فعلت بخلفة الاطمئنان إلى إسلام معتدل. وحينما فسخت عقد شراكتها غير المعلن مع «الإخوان»، فسخته لأنهم فشلوا في «التنفيذ» و»التسليم» بين غزة وسيناء وبنغازي. وحين قاطعت إيران، قاطعتها بهذا الهاجس، أيام عهود «تصدير الثورة». وحين فاوضتها، قصدت تعميم مفهوم «حوار حضارات» خاتمي، في وجه «صدام حضارات» فكر الغرب السكولاستيكي… هي أولوية الأميركيين عندنا اليوم إذن. الباقي مؤمن. النفط في أدنى أسعاره، وهو بكل حال لن يشربه الأمراء ومضطرون لبيعه. وإسرائيل في أفضل حالاتها العسكرية. بعدما ضربت لها واشنطن جيوش الدول التاريخية الثلاث: دولة العباسيين في بغداد ودولة الأمويين في سوريا ودولة الفاطميين في مصر. كل ما بقي من هواجس أميركا أن يتوقف عنف الدين ضدها، وأن يتوقف فكراً قبل أن يصير إرهاباً مادياً. هنا لم ينجح عبدالله. وهنا لم يفلح بندر. لا بل كان الأول محايداً، وكان الثاني متورطاً، كما يعتقد كثيرون في واشنطن والغرب. هكذا ولد الانقلاب الأميركي في الرياض، من زاوية المصلحة السياسية أولاً. يأتي محمد بن نايف وريثاً، رجل النظام القوي، ومشروع الاستمرار في النظام، من جيل إلى جيل، ومن عهود الثمانينيين، إلى القائد الخمسيني المتناغم في عصر أعمار زعماء العالم. ثم هو محمد بن نايف، رجل مواجهة الإرهاب، في سجون السعودية المحروقة، وفي الصحراء والحدود وفي الخارج. الرجل الذي حل في واشنطن مرتين في غضون عشرة أشهر، مع نصاب استقبالي كامل، من البيت الأبيض إلى كل بيت. ظاهرة لم تعرفها العلاقات الأميركية ــ السعودية، منذ زمن بندر. بندر نفسه الذي أخرجه الانقلاب الأميركي.
جاء أوباما إلى السعودية، ليقول لحكامها: انتهى زمن التعايش مع الأصوليين. انتهى زمن السكوت عن منابع فكرهم وأصول تعبئتهم ومصادر أدلجتهم وتمويلهم. جاء أوباما ليقول لحكام الرياض الجدد: ها هي زوجتي بينكم على أرضكم حاسرة الرأس. إنها صورة تحالفنا المقبل، وصورة بلدكم للمستقبل. صورة لا يمكن فريق عبدالله ــ بندر أن يفهمها أو أن يقبلها.
هنا يبرز الشق الآخر من الدوافع الأميركية. حيث يتقاطع السياسي مع الشخصي. وحيث تلتبس الحسابات مع المشاعر. لم يخرج بندر مع وصول أوباما لمجرد أن السياسة قضت بذلك. بل لأن الكيمياء الشخصية أسهمت في ذلك أيضاً. فالرجل الذي عاد إلى كنف العائلة مصادفة، لم يبرز في واشنطن اسماً لامعاً، إلا عبر إقراره صفقة طائرات آيواكس في الثمانينيات. كان يومها عهد ريغان. وكان الشاب السعودي المزهو بإدخاله جنة بلاط أعمامه بعد إبعاد، قد بدأ ينسج علاقة صداقة متينة مع نائب الرئيس يومها جورج بوش. بعدها وصل بوش الأول إلى الرئاسة، ومن بعده بوش الابن، فصار «بندر بوش» سفير الرياض في واشنطن، وسفيراً فوق العادة بين قراري البلدين. غير أن سكرة أصابته يومها. حتى أنه لم يرد ثلاث مرات متتالية على اتصال هاتفي من حاكم مغمور لولاية أميركية صغيرة، اسمها أركنساس. وكان الحاكم المصدود ديمقراطياً، لا جمهورياً كما السلالة البوشية. وكان اسمه بيل كلينتون. فجأة صار الرجل رئيساً. وقرر رد التهذيب البندري بمثله. فلم يرد على الأمير السعودي المتقلب بين محظي ومنفي، ثلاث سنوات كاملة. حتى حفظ كل الديمقراطيين الدرس. وأوباما واحد منهم، هو من أطل على الحياة الأميركية الرئاسية، خطيباً في احتفال الحزب الديمقراطي لإعلان ترشيح كلينتون نفسه.
خرج بندر من واشنطن. وأمس أخرج من الرياض. لأن انقلابه السعودي لم ينجح طوال أعوام. ولأن الانقلاب الأميركي في السعودية يبدو أكثر حظاً في النجاح، في السياسي، وفي الشخصي.