ـ ١ ـ
… أكثر من شوبنهاور…
ألقت أجهزة الأمن المصرية القبض على خلية تهمتها «نشر المناخ التشاؤمي…»، وهذه «التهمة» ليست مجرد واحدة من «عجائب» اللحظة الراهنة في مصر، لكنها تفسير او تبرير او فلسفة «للفشل»… وردت في خطاب أمس للرئيس السيسي نفسه.
السيسي لم يتحدث مباشرة عن الخلية، لكنه أشار إلى كلام متشائم «يهزم» الروح التي تحقق «الإنجازات» كما يراها الرجل الذي ظهر على الساحة السياسية معقودا عليه أمل «إنقاذ» الدولة.
«المنقذ» بعد سنتين وقليل من حكمه يشكو من «التشاؤم، وأجهزته حولته إلى تهمة مثل «الانقلاب على نظام الحكم…»، والارتباط بين التشاؤم والشعور بالخطر على الدولة، ليس مجرد عواطف عابرة، لكنه أساس نظرة المارشال السابق لعلاقة الرئيس بالحاكم والشعب، وأنه «كل شيء على ما يرام» ما دام «النقد مختفيا…»، والخطاب الخارج على قبضة «السلطة» متهما بالخيانة/المؤامرة/وأخيرا «التشاؤم…».
ورغم أن التشاؤم من المسارات السياسية، يمثل إرادة تفاؤل بالانتصار على الشر في بعض الفلسفات، إلا أن الاعتماد في السياسة على ثنائية «التشاؤم» و «التفاؤل» الخير والشر، عودة إلى ما قبل السياسة، أو وضعها على الهامش، مع تسييد منطق التطير والحسد وتقسيم العالم إلى «أشرار وأخيار»… تلك القسمة التي تؤدي في النهاية إلى كوارث محققة، كما نراه في تصرفات آخر سلالة الحكام المحليين والدوليين، والذين ورثوا «سايكس بيكو»… وذهبوا بقانون الوراثة إلى تحويل المنطقة إلى بقعة كوارث ومصنع مآسٍ كما رأيناها في العراق وأفغانستان وسوريا وغيرها.
الرئيس السيسي قال كلامه عن «التشاؤم» مصحوبا بالقلق البالغ من الأزمة الاقتصادية إلى درجة اقتراح «استخدام الفكة» (القروش التي لا تكمل الجنيه) في تمويل مشروعات أو لحل الأزمات المستعصية التي أدت إلى ارتفاع الأسعار وتعطل الاستثمار بسبب أزمة الدولار وانتشار القلق من المستقبل بسبب اتباع سياسات تدفع ثمنها قطاعات تقف على حافة الانهيار مما يهدد بثورة «جياع» أو «ثورة غلابة»، وهي دعوة انتشرت بشكل مريب تحدد موعد 11 /11 لإعلان رفض سياسات السيسي، من دون إشارة إلى صاحب الدعوة، وقيل إنها أحد تدابير الأجهزة السرية في كشف الاتجاهات التي تتحرك بعيدا عنها، أو لامتصاصها وتفريغ الغضب.
وربما هذا سر تهديد السيسي تهديدا غامضا بخطة «انتشار الجيش بطول مصر كلها… في 6 ساعات…» تعبيرا عن قلق «أجهزة أخرى» لا تستخدم طريقة «إثارة الرعب من عودة الثورة».
لا أحد يعلم، لكنها علامات عاطفية على الشعور باقتراب نهايات درامية، وتعزز علامات أخرى واقعية تجسدها مأساة غرق مركب يحمل مهاجرين مصريين وسوريين وسودانيين، كان يحمل على متنه 400 راكب، وانتشلت حتى الآن 162 جثة.
المهاجرون… بينهم مراهقون وصبية صغار، إلى جانب عائلات كاملة، مما يمثل نوعا من «النزوح الجماعي…» قابلته الدولة بالإنكار الذي بلغ ذروته مع تصاعد نبرة لوم الضحايا… الذين جمعوا أموالا (حوالي 3 آلاف دولار) من أجل الهروب إلى «الجنات البعيدة» بدلا من العمل في بلادهم، بهذه الأموال نفسها… وارتفعت بعض الأصوات للمطالبة بمحاكمة أهل الضحايا لأنهم سمحوا لهم بجريمة «الهروب…».
ـ 2 ـ
إنهم مقاتلون.
قد تذهب مع أوصاف الدول (التي تشكو منها في الغرب والشرق)… وتسميها «هجرة غير شرعية».
قد تعتبرهم «مساكين… انتهازيين…»، أو تراهم طلاب «مال سهل…» أو «هاربين…».
قد تعتبرهم كل ذلك الدول التي ترفض منحهم تأشيرات، في أبهى استبداد لفكرة «الدولة القومية» التي تقدس الحدود مقابل استهانتها بالإنسانية وحقوق «التنقل…».
هذا التقديس هو في جزء منه «اعتراف» بالواقع القائم على غياب العدالة، وفي إلغاء نزاع البحث عن مكان أنساني من وجهة نظر الهارب.
وهذه النظرة المستمدة من إدانة «خيانة الواقع» القاسي أصلا، بدلا من الثورة عليه أو الانضواء تحته، تمثل قتالا من أجل «حياة أفضل…» وعدم التورط في «المعاندة» من أجل التغيير، وفي الوقت نفسه رفضاً لقبول ومهادنة الأمر الواقع.
ولهذا، فإن أغلب المهاجرين غير الرسميين من مصر، وبعد كانون الثاني (يناير) 2011 من أطفال وصبية أقل من 18 سنة، فهذا الجيل يرفض التواطؤ على الذات تحت جناح الدولة (الطاردة) أو رفضا لشروط الدولة (المتعسفة في شروط منح التأشيرات)…
القتال هنا «شخصي»… في لحظة «الكوارث الجماعية» التي تكشف عن فشل وعجز «الصيغ» التي كانت قبل قرن ويزيد هي «أمل البشرية» في التقدم.
هم هاربون من النهايات المفجعة، وليسوا على الأقل مجرمين.
هم باحثون عن «واقع جديد» لا عن طريق الثورة أو الصناديق أو تغيير الحاكم…
هذه الحركة المقلقة للعالم أكبر من حركة التداول السلمي أو العنيف للسلطة.
ـ 3 ـ
من التالي؟
لم يعد السؤال سرا في القاهرة. أصبح مطروحا على أعتى أجهزة الدولة /العميقة والسطحية. استطلاعات الرأي المنظمة والعشوائية تحاول رصد: مَن بعد السيسي…؟
الأجهزة المعنية بنشر «الوعي…» المسانِد للدولة دأبت مؤخرا على اختبار قدراتها في مقاومة «الخسارة» أكثر من «حفاظها» على شعبية «الرئيس» الذي أتى منقذا ثم حفر طريقه إلى «وضع» قد يغلب عليه الطابع الدرامي.