جنبلاط والمشنوق: معركة الشرطة القضائية استعداداً لحرب رئاسة الأركان؟
ليس في تراث آل جنبلاط أن يشهد القائد ولادة حفيده. معظمهم مات قتلا او اغتيالا. ربما لذلك يوحي وليد جنبلاط بمراقصته الدائمة للقلق والخطر على مسرح السياسة. تارة يراقصه برفع الصوت، وأخرى بالنكتة التي يتقن حبكها. أما وقد وفقه الله بأن يرى حفيديه فؤاد وسابين من ابنه الأكبر تيمور، فقد ضمن، على الأقل، استمرار الزعامة الجنبلاطية. لا بأس إذا أن يزيد قصر المختارة تجديدا أنيقا وهو العميق الثقافة والذواقة بالفن والقارئ للتاريخ ولعبة السياسة حتى ولو أخطا في تقدير مآلاتها غير مرة.
يدرك وليد جنبلاط ان لا شيء سيعكر سير الوراثة. لا انتفاضة درزية (هي من سابع المستحيلات) ولا أطماع مقربين وقريبين، ولا غضب الخصوم الذين يعودون في كل مرة الى مراعاته فيُغضبون حلفاءهم الآخرين من الأمير طلال أرسلان الى النائب السابق فيصل الداوود الى الوزير السابق وئام وهاب الذي أحدث الاختراق الوحيد في الركود السياسي الدرزي من خارج العائلات التقليدية او الاقطاعية. ففي الفترة الأخيرة، قلّم جنبلاط أظافر أبرز الذين فكروا ربما بشيء من الزعامة في ظل «البيك».. وقريبا يكمل المهمة.
أسس سيد المختارة في لقائه مع الزميل مارسيل غانم لمرحلة حزبية ودرزية جديدة تكون مريحة لما بعدها بقيادة تيمور. قال بوضوح ان على القدامى في الحزب، ان يعلموا بأن تضحياتهم كبيرة «لكن آن الآوان لأن يفسحوا في المجال للغير». ليس مؤكدا ان كل قديم لا يصلح، والا لكان فرانسوا ميتران ترك الحزب الاشتراكي الفرنسي قبل عقود من وفاته. لكن بين الزعامة الجنبلاطية والقيادة الحزبية، الأمر مختلف. الزعامة هي الفيصل.
أسماء كثيرة لمعت قرب جنبلاط حين أراد لها اللمعان، وانطفأ ضوؤها او خفت او شحب حين شاء ذلك. في مقدمها: بهيج أبو حمزة، الشيخ علي زين الدين، غازي العريضي او «شامبوليون» كما أسماه جنبلاط ممازحا وساخرا في لقائه الأخير مع مارسيل غانم، (شامبوليون هو أبرز العلماء الفرنسيين الذين فككوا شيفرة الأحرف الهيروغليفية وتعمق بالتاريخ الفرعوني المصري). مع ذلك، ربما تنفس غازي العريضي الصعداء بعد انتهاء المقابلة، اذ أثمرت جهوده الأخيرة مع «البيك» في أن يكتفي جنبلاط بهذا التشبيه وبعض اللوم بشأن الفشل في بيصور وبعض التأنيب بسبب صراعه مع أكرم شهيب.
أما الوزير المحبوب والحيوي والفعّال وائل أبو فاعور فليس هو صاحب الفضل في ربح عدد من البلديات، وانما أولا «آلة الحزب»، وفق «اللطشة» التي بدا أنها كانت مقصودة تماما من قبل رئيس «اللقاء الديمقراطي».
في العرف الجنبلاطي، كل قريب من القيادة هو موظف له دور محدد. لا مجال لزعامات وأطماع حتى لو كثر المال وجاء نصف شخصيات البلد الى زفاف هنا او عشاء هناك. تكفي تغريدة من «البيك» على «تويتر» لترتعد فرائص من انتشى. الزعامة مستقرة سياسيا ومحصنة دينيا حتى لو تمرد بعض الأجاويد والمشايخ.
لماذا كل هذه المقدمة؟
لأن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، أراد في لقائه التلفزيوني الأخير عبر «أل بي سي»، ان يوجه رسائل مهمة ومفصلية ولافتة للأنظار: هو أعلن انتهاء مرحلة من حياته ومن حياة المنطقة. فتح الباب لحركة إصلاحية شبابية داخل الحزب تخاطب الحراك المدني. التقط جيداً رسالة الشارع. قال «ان ما جرى في البلديات جرس انذار للجميع وأبدأ بنفسي». حذر وهدد بمحاسبة حزبيين سوف يستدعيهم قريبا. أدرك أن الناس يريدون شيئا آخر.
تيمور نفسه ربما يريد هذا الشيء الآخر. لعله لا يستسيغ كثيرا تلك الطوابير والوفود الدرزية التي تأتيه كل سبت الى المختارة في تقليد يمكن استبداله بمكتب حديث وحضاري للخدمات والمراجعات. لو سمحت له حياته وظروفه لعاش في مكان آخر وخاض تجربة مغايرة. هكذا يوحي بهدوئه وخجله الذي يقارب ما كان عليه «المعلم» كمال جنبلاط. يبدو غريبا في مجتمع تقليدي. لعله ينشد حياة تشبه جيله، فيها حرية وتقاليد اقل وسياسة اكثر وضوحا. لو قال ما يشعر به لربما انتقد أيضا دولا حليفة لوالده وهو يراها خارجة عن العصر.
لعل ما قاله وليد جنبلاط ، يمنح تيمور فرصة لورشة اصلاح تخاطب شباب الوطن وليس جماعات مذهبية. حوله في الحزب من الشباب من يمكن الاعتماد عليهم لو ارتاحوا.
أما على المستوى العام، فقد كان لافتا للانتباه ان جنبلاط أعاد صناعة الرؤساء اللبنانيين الى سوريا. قال: «ان النظام السوري ان لم يضمن مرشحا رئاسيا لمصلحته.. فلن يقبل ان يكون على كرسي الرئاسة». هذه فعلا ملاحظة يجب التوقف عندها بعد رحلات جنبلاط الى فرنسا والخليج ولقاءاته مع مسؤولين اميركيين. لم يكتف بهذا، بل تبنى ترشيح ميشال عون بذريعة تفاهم معراب. ودعا شريكه سعد الحريري الى الابتعاد عن ملفي اليمن وسوريا والاهتمام بالداخل. تحدث عن أخطاء ارتكبها رئيس «تيار المستقبل». كشف أنه أوصى به القيادة السعودية (أليس غريبا ان يحتاج الحريري عند الرياض لوساطة جنبلاطية!). أما «اللطشات» ضد «حزب الله»، فجاءت ملطّفة ومخففة جدا. هل في الامر قناعة جنبلاطية بتغيير الرياح السورية ام يريد حماية الوريث؟
ربما كان وليد جنبلاط سيقول أكثر في مقابلته التي حازت اعلى نسبة مشاهدة قبل يومين، لو توسع اللقاء صوب ملفات إقليمية ودولية (ليت الزميل والصديق الشاطر مارسيل غانم سأله أكثر). لكن الأكيد ان الرجل أوحى بأن ثمة مرحلة مغايرة قد بدأت.
لعل جنبلاط رأى في فوز الوزير المستقيل اشرف ريفي في الشمال شيئا أبعد وأخطر من الشأن المحلي. لعل استمرار هجومه على الوزير نهاد المشنوق بعد انتخابات بلدية ناجحة ومن دون خلل أمني تحسب له، يراد له منع وزير الداخلية من أن يكون بديلا في يوم ما في لعبة السياسة التي يبدو أنها في الوقت الراهن تهدد فعليا سعد الحريري. الغريب أن التهديد الأبرز يأتي من ضبابية الموقف السعودي حياله.
هل نحن أمام وليد جنبلاط جديد، أم وليد جنبلاط مودعا؟
كل الاحتمالات قائمة.