عندما يتراجع الحلف السعودي – التركي – القطري، ويضطر الى التقهقر واستبدال استراتيجيته الهجومية في سوريا الى اخرى دفاعية، لا يمكن لفريق 14آذار في لبنان وفي مقدمته تيار المستقبل ان يبقى في موقع «الهجوم»، وكذلك لا يمكن لتيار مسيحي قوي ووازن يمثله الجنرال ميشال عون متحالف مع حزب الله احد اعمدة التحالف الاستراتيجي الذي «قلب الطاولة» على المعسكر الاخر، ان يبقى في موقع الدفاع، انه منطق التاريخ والجغرافيا، «والف باء» السياسة والاستراتيجيا، وكل العلوم المتخصصة في فهم التحولات التاريخية. لهذه الاسباب يشعر «الجنرال» «بالزهو»وانه بات بامكانه الانتقال الى مرحلة جديدة، متحللا من كل جوانب التخويف والوعيد والتهديد بمصير المسيحيين في الشرق. هو يرى انه في محور ينتصر، فلماذا لا يتقدم خطوة الى الامام»، بعيدا عن «الصغائر» المتعلقة بتعيينات من هنا وترقيات من هناك، فثمة شيء اكثر «جدية» واكبر من «لعبة» تقاسم حصص صغيرة في بلد ما يزال الكثير من قياداته السياسية قاصرة عن فهم التحولات وحدود طموحها اما للحفاظ على الثروة والمال، او عدم خسارة لقب «الاقطاعي» الذي تعود على ادارة شؤون رعيته كمثل تعامله مع قطيع للاغنام.
هذه الخلاصة، لقيادي بارز في 8 آذار، تشرح «روحية» كلام «الجنرال» بالامس، وتفسرالتصعيد «العقلاني» المتدرج المعتمد من قبله، هو يعرف جيدا ان ما بدأ في سوريا بداية هذا الشهر ليس بالامر العابر، يدرك جيدا ان ما يحصل يحتاج الى مواكبة داخلية على الساحة اللبنانية، تحفظ له مكانا مرموقا في التسوية عندما سيحين موعد «الجلوس» على الطاولة، التدخل الروسي العسكري في سوريا محطة مفصلية ، التحالف الرباعي بين موسكو ودمشق وبغداد وطهران، زائد حزب الله، هو المعني برسم المستقبل السياسي والعسكري لهذه المنطقة، خصوم دمشق تحولوا لاول مرة منذ نحو خمس سنوات من موقع الهجوم الى الدفاع عن مكتسباتهم، فما تحقق حتى الان مهم للغاية، انتهاء «حلم» اسقاط النظام في سوريا، موسكو رسمت خطوطا حمراء لهذه القوى ووضعتها امام خيارات صعبة، لبنان لن يكون بمنأى عن هذه التحولات، حليفه حزب الله معني بعبور «حقل الغام» الانفجار المذهبي السني- الشيعي دون الاصطدام باي لغم قد يؤدي الى انهيار امني وسياسي لا يريده، «الجنرال» متحرراً اكثر في مواجهة هذه العقدة، يستطيع رفع السقف محددا معالم المرحلة المقبلة دون الكثير من «العقد»، يريد الانتصار في معركته ضد محاولات تهميشه سياسيا، انها معركة لا تحمل فقط عنوان استعادة حقوق المسيحيين، بل معركة عدم التفريط بصوابية الخيارات الاقليمية، لشريحة مسيحية وازنة اختارت منذ العام 2006طريقها الى جانب مقاومة تشبهها في التضحية والاهداف، هي ترى ان مشروعها يتقدم في المنطقة وعلى «ابواب» الانتصار، فهل مطلوب الانكفاء، او التقدم لملاقاة التطورات الدارماتيكية المتسارعة في المنطقة؟
طبعا يدرك «الجنرال» ان حزب الله يقف معه في «السراء والضراء»، في معركة مشتركة يدرك فيها الحزب ان التصويب على التيار الوطني الحر هو بمثابة «اطلاق النار» عليه، فالجنرال تحول الى هدف مفضل لدى الطرف الاخر لاعتقاده ان اضعافه يعني حكما اضعافا لحزب الله، والحزب يدرك ان ما يتحمله الرجل من اعباء يرتبط بدوره المحوري في دعم المقاومة من خلال توسيع الحاضنة الشعبية المؤيدة لها خارج اطار الطائفة الشيعية. عند هذه النقطة اصاب عون هؤلاء بمقتل، وهو يتحمل هذا «العبء» عن قناعة مع استعداده لدفع «الاثمان». لكنه يعتقد اليوم ان على «خصومه» ان يدفعوا ثمن خياراتهم الخاطئة. لماذا؟
الاجابة لا تحتاج الى الكثير من «التبصر»، ويكفي السؤال اين حلفاء هؤلاء؟ الولايات المتحدة لا تملك اي استراتيجية واضحة لمواجهة «المد» الروسي، الحلفاء يشعرون بـ «الخذلان» من الموقف الاميركي الذي لم يكن حاسماً، واشنطن رفضت منذ بداية الازمة مطالبهم المتكررة بالمساعدة على إسقاط النظام السوري، «اجهضت» فرصة التدخل العسكري ابان ازمة الاسلحة الكيميائية، ومن ثم رفضت إقامة المنطقة الآمنة، وهو ما أوصل الأمور إلى هذه النقطة وفتح الباب للتدخل الروسي الذي تمدد في ظل الفراغ الأمريكي والتركي والسعودي.
تركيا التي كانت تطالب بإقامة منطقة آمنة داخل الحدود السورية لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، باتت تعمل على وقف انتهاك الطائرات الروسية لمجالها الجوي وتترقب موجات هجرة جديدة بسبب الغارات الروسية على سوريا، فيما تتقلص الخيارات بعد موجة التفجيرات الانتحارية الاخيرة وسط مواجهات مستمرة مع حزب العمال الكردستاني، وهي تقف على «ابواب» انتخابات تشريعية مفصلية.
السعودية متورطة في حرب اليمن تضيف الاوساط، تتخبط في مواجهة التدخل الروسي في سوريا، ثمة انقسام داخل المملكة بين تيارين الاول يقوده وزير الدفاع وولي ولي العهد محمد بن سلمان الذي يريد تسليح الفصائل السورية المسلحة بأسلحة نوعية جديدة، وتكرار تجربة افغانستان، والثاني يقوده وزير الداخلية محمد بن نايف الذي يحذر من التورط «بلعبة» شديدة الخطورة تعيد انتاج «قاعدة» جديدة سترتد نتائجها على الداخل السعودي، ويحاول الترويج لنظرية تقوم على ان روسيا تعمل على إيجاد بديل للرئيس الأسد من داخل المؤسسة العسكرية السورية وهي تعمل على إعادة «هيبة» الجيش السوري من خلال تحقيق بعض الانتصارات العسكرية على أرض المعركة، وحين يستعيد «هيبته» بتحقيق بعض الانتصارات العسكرية الكبيرة على قوات المعارضة، تستعاد الدولة القوية بقيادة الجيش وليس بقيادة الرئيس الأسد. طبعا نظرية لا تستند الى اي معلومة وانما دعوة الى عدم التهور «والانتظار» بعد تبدل المعطيات، انه نوع من «المقامرة» السعودية غير القائمة على اي معطيات، الخيارات ضيقة، إما اللجوء الى حرب بالوكالة في سوريا وتالياً انتاج ما هو أشد تطرفاً من «داعش»، وإما القبول بتسوية تلبي مصالح روسيا وايران.
«الجنرال» يدرك ان هذا المازق الاقليمي بنسحب على الحلفاء اللبنانيين، بات يعرف ان انتصار رهاناته ومشروعه هي مسألة وقت، اما عناد تيار المستقبل في الداخل فهو مرتبط بفقدان توازن الحلفاء الاقليميين، ستحين «ساعة» الحقيقة قريبا، ستفرض موازين القوى نفسها على الجميع، انها مرحلة ولادة جديدة لن يكون «المخاض» سهلا، لكن الموعد اصبح اقرب من اي وقت مضى لتحقيق ما راهن عليه عون طويلا، وما جرى على طريق بعبدا بالامس بداية «الطريق» لقطف ثمار خيارات «الزمن الصعب».