لم تعد الأزمة السياسية الراهنة هي الأولوية، ولم يعد الوضع المالي المتدهور هو الهاجس الأكبر لأهل الحكم، وما عادت حالة الكساد والجمود في الحركة الاقتصادية هي التي تشغل بال كبار المسؤولين، بل أصبحت كارثة البطالة المتزايدة والتي شملت ثلث الشعب اللبناني على الأقل، مجرَّد قضية ثانوية لا تستحوذ على اهتمام المسؤولين، الذين وجدوا أنفسهم «فجأة» أمام معضلة وطنية مخيفة تتطلب توجيه رسالة عاجلة من رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب لتفسير عبارة «مقتضيات الوفاق الوطني»، الواردة في المادة ٩٥ من الدستور!
سبب اكتشاف هذه «المعضلة الوطنية المستعصية»، وجود المادة ٨٠ في الموازنة العامة التي نصت على مراعاة حقوق الناجحين في امتحانات الخدمة المدنية بالتعيين في الوظائف التي تقدَّموا لها، بغض النظر عن التعداد الطائفي، على اعتبار أن الدستور نص على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في وظائف الفئة الأولى فقط ، في حين تُركت الوظائف الإدارية الأخرى لمعايير الاختصاص والكفاءة، عبر المباريات التي يُجريها مجلس الخدمة المدنية.
الحسابات الشعبوية الطائفية، التي تحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، تقدمت على التخبّط الحاصل في عدم انعقاد مجلس الوزراء منذ أكثر من شهر، وتداعيات هذا العجز الفاضح في إدارة الحكم على الوضعين المالي والمعيشي، فضلاً عن سمعة لبنان في المحافل الدولية، والمخاطر المحيطة بتخفيض التصنيف الإئتماني، واحتمالات تعرض موارد الميزانية الجديدة للإجهاض بشكل درامي، بسبب انكماش الحركة الاقتصادية، وتراجع الإنفاق العام، وسحب السيولة من التداول بعد رفع الفوائد!
طبعاً من حق رئيس الجمهورية الدستوري أن يوجه مثل هذه الرسالة إلى المجلس النيابي، ولكن السؤال الذي يتردد على شفاه الناس: هل تفسير عبارة «مقتضيات الوفاق الوطني»، التي تعني عدداً محدوداً من الناجحين في امتحانات الوظيفة العامة، سيؤدي إلى حل كل المشاكل العالقة، السياسية والاقتصادية والمالية، التي تتطلب ديناميكية ناشطة من الحكم، وانسجاماً بين أطراف الحكومة المترنحة، وخطوات جريئة من السلطات المعنية لوقف مزاريب الهدر واستئصال سرطان الفساد، وإطلاق الورشة الإصلاحية الموعودة، والتي لم تُبصر النور بعد، فيما العهد على أبواب سنته الرابعة!
هل تفسير جملة في أحد بنود مادة دستورية يساعد في إيجاد فرص عمل للشباب ووقف نزيف هجرة أصحاب الاختصاص والكفاءة إلى الخارج؟
وهل طرح مثل هذه التباينات الدستورية في هذه المرحلة بالذات، يوحي بوجود الاستقرار المنشود لتشجيع أصحاب الرساميل والمستثمرين على القدوم إلى لبنان والمساهمة في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني؟
وهل إعطاء الأولوية لمثل هذه الموضوعات الخلافية يعزز ثقة الداخل والخارج على السواء، بقدرة الحكم الحالي على تجاوز الصعوبات المتزايدة، ومواجهة التحديات السياسية والمالية المعقدة؟
ومن يضمن تأمين التصويت بأكثرية الثلثين، كما نص الدستور، على أى تفسير لهذه الجملة، في حال توصل النواب إلى تفسير موحد، وهو أمر ليس من السهولة الوصول إليه؟
مع كل التقدير لصلاحية الرئيس في استخدام حقه الدستوري، إلا أن ما يعاني منه البلد من حساسيات طائفية، وخطابات شعبوية رخيصة، لا يكون علاجه بإظهار الخلافات الحزبية حوله، بل المقتضيات الوطنية تفرض الذهاب إلى الحلول الجذرية، والدعوة إلى تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وامتداداتها في النفوس والنصوص، وفق ما ذكر الرئيس الراحل إلياس الهراوي في رسالته إلى مجلس النواب في آذار عام ١٩٩٨، وهي خطوة تاريخية من شأنها أن تمهد للانتقال للدولة المدنية التي يكون فيها اللبنانيون سواسية في الحقوق والواجبات، في الوظائف العامة كما في السلطات العامة، ويكون المقياس الأول والأخير هو الكفاءة، بعيداً عن التقسيمات الطائفية والمذهبية والمناطقية.
رب قائل إن الرئيس ميشال عون لم يدع حتى الآن لأي مؤتمر حوار وطني، يجمع فيه الأطراف السياسية والحزبية، حول طاولة واحدة لتدارس ما يمر به الوطن من تأزم وتعثر، كما كان يفعل سلفه العماد ميشال سليمان، فكيف يمكن أن يذهب مباشرة إلى تشكيل الهيئة الوطنية، دون المرور بمؤتمر للحوار الوطني؟
لبنان على مفترق مفصلي ومصيري، وأهل السياسة ما زال يشغلهم جنس الملائكة