يَستذكر «حزب الله»، لمناسبة مرور أسابيع على بدء عاصفة «السوخوي»، نظرية رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق غابي أشكنازي القائلة بوجوب وضعِ طائرة الـ»إف 16» في خدمة بندقية الـ «إم 16».
يُوجِز أشكنازي بعبارته الآنفة خلاصةَ تجربتِه العميقة التي استخلصها من جيل الحروب الجديد التي وقعَت خلال العقدين الأخيرين. ويريد من خلالها تأكيد أنّه لم يعُد بالإمكان كَسب الحروب من الجوّ، فالطائرات الحربية الحديثة تنتصر فيما إذا وضِعت في خدمة تقدّم الجندي على الأرض.
وكما أنّ هذه النظرية أثبتَت صحّتَها بالنسبة إلى تجربة الأميركي والإسرائيلي في لبنان وغزّة والعراق وأفغانستان، فإنّه يتوقّع بثقة أن تُثبت صحّتها لجهة التجربة الروسية في سوريا.
لا شكّ في أنّ خلاصة أشكنازي وصلت إلى القيادتين السياسية والعسكرية الروسية، وجوهرُها يشكّل حالياً إحدى خلفيات توجّه موسكو إلى انتهاج استراتيجية المسار المزدوج في سوريا؛ بمعنى تلازُم إطلاق عاصفة «السوخوي» مع إطلاق عاصفة سياسية للبحث عن تسوية.
تقول مصادر روسية إنّ موسكو أخبرَت النظام وحلفاءَه في سوريا، أنّه على رغم تدخّلها العسكري المباشر، إلّا أنّها لا تزال تعتقد بأنّ حلّ الأزمة السورية سياسي وليس عسكرياً. وبحسب نظرة الرئيس فلاديمير بوتين فإنّ عاصفة «السوخوي» هي في خدمة طاولة التفاوض.
وتراهِن إيران و«حزب الله» على تعديل موقفه، لمصلحة أنّ تصبح طائرة «السوخوي» في خدمة تقدّم حاملي الكلاشينكوف على الجبهة البرّية، وذلك من باب إقناعه بمحاكاة نظرية أشكنازي عن الـ»إف 16» والـ» إم 16».
يَسود في «حزب الله» اعتراف بأنّ إنشاء تنسيق استراتيجي بين عاصفة «السوخوي» الجوّية وبين قوات البر الحليفة، ليس أمراً سهلاً. وحدَهما أميركا وإسرائيل من بين كلّ دوَل المنطقة، أجرَيا مناورات تفصيلية للتنسيق بين سلاح الجو الأميركي وقوات البر الإسرائيلية في ميدان يحاكي حدوثَ معركة حقيقية.
على رغم ذلك تتوافَر إرادة للتعاون بين الروس والحزب في نطاق الممكن عسكريّاً وسياسياً. فهما موجودان معاً بالإضافة إلى الجيش السوري، في غرَف عمليات مشترَكة، لكنّ نطاق مهمّاتهما لا يرقى إلى درجة التنسيق الشامل بين سلاح الجوّ الروسي وقوات النظام وحلفائه على الأرض.
وفي الأساس يختلف مذهبا القتال للروس والحزب، وهذا أمرٌ إضافيّ يُعَقّد التنسيق الميداني. بعض ضربات عاصفة «السوخوي» تسبَّب بخسائر غير مقصودة في صفوف «حزب الله». هذه حقيقة تبدو متوقّعة من منظار العِلم العسكري، لكنّ الطرَفين يعتبرانها إحدى إشكالات الميدان السوري المستجدّة.
يَعمل الحزب والجيش السوري ومعهما الحرس الثوري، على التكيّف عسكرياً مع الميدان السوري في مرحلة ما بعد التدخّل العسكري الروسي. ثَمَّة إنجازات بنيوية تحقّقت، منها تحقيق نوع من الدمج في إطار الميدان، بين الفرقة 11 في الجيش السوري ووحدات «حزب الله» في منطقة حلب. يؤمّن هذا الأمر أداءً عسكرياً برّياً أفضل لمحور النظام في حال تبلوَر قرارٌ بشَنّ هجوم لاستعادة جسر الشغور وإدلب.
من هذه الإنجازات الوازنة برّياً أيضاً، دخول مئات من مقاتلي النخبة في الحرس الثوري (فرقة الصابرين) إلى سوريا. ويبدو أنّ مقاتلي «الصابرين» ووحدات الحزب المتألّفة ميدانياً مع الفرقة 11 في الجيش السوري، سيشكّلون البنية العسكرية المستجدّة لمعركة استعادة شمال سوريا المنتظرة في آذار المقبل.
ويلاحَظ أنّ التعقيدات التي تواجه بدءَ هجوم استعادة شمال سوريا، تتركّب من عوامل سياسية وعسكرية. مثلاً في حين تُحدّد كواليس طهران آذارَ موعداً لبدء هجوم قلب موازين الميدان السوري في منطقة الشمال في مرحلة عاصفة «السوخوي»، فإنّ كواليس موسكو وغير عاصمة غربية وعربية تُحدّد آذار موعداً لبدء تثمير اتصالات التسوية القائمة الآن في فيينا وغيرها.
كما أنّ إيران تتحسّب من ردّ الفعل التركي على أيّ هجوم شامل لطرد جماعاتها من منطقة الشمال السوري، خصوصاً بعدما نال الرئيس رجب طيّب أردوغان تفويضاً داخليّاً ليس معروفاً حتى الآن كيف سيصرفه الأخير وفي أيّ اتّجاه: هل في الداخل أم في الجوار السوري؟
أضِف أنّ تعقيداً مستجدّاً ينُتظر أن يواجه أيَّ تقدّم برّي للنظام في شمال سوريا، وهو يتمثّل بتعاظم طرَأ على كثافة امتلاك مقاتلي المعارضة في تلك المنطقة لصواريخ «التاو» من الجيل الثالث (مضاد فعّال للدروع).
وخلال الفترة الراهنة الفاصلة عن اكتمال عدّة هجوم آذار، يبدو واضحاً أنّ الجيش السوري وحلفاءَه يتّجهون في هذه المرحلة من عاصفة «السوخوي» لخوض معارك «توسيع مساحات التماس مع مواقع المعارضة المسلّحة». ويُراد من هذه التكتيكات إعادة تصليب نقاط الوحدات المتقدّمة في الميدان (رؤوس الحربة) التي كان اعتراها وهنٌ في الصيف الماضي نتيجةَ نجاحات «جيش الفتح» خصوصاً في الشمال.
وتسمح أيضاً بجسّ نبضِ ما إذا كان طرأ على سلوك الإقليميين الخاص بتسليح المعارضة، تزخيم أو تراجُع بعد التدخّل الروسي. وتفيد أيضاً باكتشاف خطوط هجوم برّي تقع خارج مدى صاروخ «التاو» (الحديث جارٍ عن خَط الخناصر).
تقديرات للموقف
ويشهد الميدان السوري في هذه المرحلة اتّجاهاً لدى كلّ أطرافه لتحقيق أمرَين: التكيّف مع عاصفة «السوخوي» عسكرياً، وهو أمرٌ يَسود على ضفّتي النظام وحلفائه وفصائل المعارضة أيضاً. والأمر الثاني هو إجراء كلّ طرف تقديرَ موقف سياسي أوّلي للربح والخسارة الذي طاوَله جرّاء التدخّل الروسي.
يَلحظ تقدير الموقف كما قرأه «حزب الله» بحسب مصادره، أنّ عاصفة «السوخوي» حقّقت إيجابيات استراتيجية أفاد منها، أبرزُها أنّها أنهَت كلّياً احتمال إسقاط النظام السوري، سواءٌ بالوسائل السياسية أو العسكرية. كما أظهرَت جدّية حلفائه في الدفاع عنه وعن خياراته بخصوص موقع سوريا في صراعات المنطقة.
أمّا الظلال السلبية فتتمثّل بواقعةٍ مهمّة حدثَت خلال التفاهم الروسي – الإسرائيلي على تحاشي صِدام جوّي بينهما في السماء السورية. وخلاله وافقَت تل ابيب على إبعاد طائراتها عن سماء جنوب سوريا. ولكنّها انتزعَت من موسكو موافقةً على حرّية حركة سلاح الجوّ الإسرائيلي في سماء لبنان واعتباره جزءاً من تفاهمات عدم الصِدام الجوّي بين الطرفين.
لا يقرَأ «حزب الله» هذه المعلومة بوصفِها غطاءً روسيّاً لحرب إسرائيلية عليه في لبنان، ولكنّه يتحسّب من أنّها قد تُغري إسرائيل على التفكير بنَصب خديعةِ حربٍ مباغتة ضدّه.
وعلى رغم أنّ الحزب لا يزال يعتقد بأنّ إسرائيل لن تجرؤ على ارتكاب هذه المغامرة، إلّا أنّ أجواءَه لا تُخفي أنّ تحسّبَه لحرب إسرائيلية مباغتة زاد إثرَ تفاهمات ترسيم النفوذ في أجواء سماء المشرق بين موسكو والدول التي لها نشاط جوّي فيه.
وسبب التحسّب هو أن تُفسّر تل أبيب على نحو خاطئ تركَ عاصفة «السوخوي» سماءَ لبنان مفتوحةً أمام حركة سلاحه الجو الإسرائيلي، فتعتبر ذلك بمثابة فرصة دولية تسنَح لها باستغلال الانشغال الكوني بالأزمة السورية لشنّ حربِ ثأرها ضد «حزب الله».