ليس انفجار برج البراجنة، حصراً، هو الذي دفعَ «حزب الله» إلى إطلاق دعوته إلى التسوية السياسية. فالسيّد حسن نصرالله كان قد دعا إليها في «يوم الشهيد» قبلَ العملية الانتحارية. والأرجح أنّ الأمين العام، بما يمتلك من معلومات هو والأجهزة الأمنية، كان يتوقّع عودة التفجيرات الانتحارية إلى الضاحية، ويريد «القَوطبة عليها»، كما فعلَ قبل عامين.
الوضعية التي يجتازها «حزب الله» في هذه الأيام شبيهة بتلك التي مرَّ بها في 2013 و2014، أي خلال بدايات حكومة الرئيس تمام سلام. ففي نيسان 2013، أخرج «الحزب» حليفه الرئيس نجيب ميقاتي من السراي ليأتي سلام. لكن الأزمة السياسية لم تسمح له بتشكيل حكومة.
وفي ذروة هذه الأزمة السياسية، تموز 2013، ضرب الضاحية الجنوبية أول انفجار انتحاري، وكرّت السبحة في الضاحية (الرويس، حارة حريك، الشارع العريض (عمليتان)، السفارة الإيرانية، الشياح)، وفي الهرمل.
ووسط حمام الدم الانتحاري، قرَّر «الحزب» أن يعقد «ميني تسوية» تريحه. وهكذا وُلدت حكومة سلام الحالية، في آذار 2014، وفيها تنازل «الحزب» عن كل الحقائب المتعلقة بالأمن:
تيار «المستقبل» أخذ وزارتَي الداخلية والعدل، إضافةً إلى رئاسة الحكومة. وأمّا الدفاع فأعطيَت للرئيس ميشال سليمان والاتصالات لـ 14 آذار. وفعلاً، بعد ثلاثة أشهر، في حزيران 2014، توقّفت التفجيرات الانتحارية.
ولم يخرق الهدنة سوى انفجار بعل محسن الانتحاري المزدوج في كانون الثاني 2015. وقد تبنَّته «النصرة»، «ردّاً على تغاضي الحكومة عن محاسبة منفِّذي التفجيرين اللذين استهدفا مسجدَي السلام والتقوى في آب 2013». أي إنّ عملية بعل محسن كانت ثأراً «إستثنائياً» طارئاً في إطار طرابلسي.
إذاً، ما إنْ عَقد «حزب الله» تسوية ترجمتها الحكومة السلامية، في ربيع 2013، وغطّاها الإيرانيون والسعوديون، حتى هدَأت التفجيرات الانتحارية.
واليوم، عادت موجة التفجيرات إلى الضاحية. ويبدو أنّها أيضاً تهدِّد بعل محسن لأنّ المعلومات التي اعترفَ بها عنصر «داعش» الذي أوقِف في طرابلس، مع حزام ناسف، تؤكّد أنّ عملية كانت في صَدد التحضير لتنفيذها في بعل محسن.
طبعاً، الدوافع السوريّة إلى التفجيرات الانتحارية قائمة دائماً، سواء نجحت التسوية السياسية حاليّاً في لبنان أو فشلت. لكنّ تجربة العام ونصف العام الأخيرة أشارت إلى أنّ التسوية بين القوى المذهبية اللبنانية، بغطاء إقليمي قوي، تتكفَّل بإبقاء لبنان في منأى عن التداعيات السوريّة.
فالتسوية التي تمّت بين السعودية وإيران، أبّان تشكيل الحكومة السلاميّة، قضَت بإعادة «المستقبل» إلى السلطة بنفوذٍ وازن، ولكن بناءً على قاعدة مزدوجة:
– أن يتولّى «سُنّة الاعتدال» مواجهة «سنّة التطرُّف».
– أن يبقى ملفّان مغلقين حتى تأتي ساعة الحلول الكبرى: سلاح «الحزب» وتدخّلُه في سوريا.
كان ذلك «زواج مصلحة» سنّياً- شيعياً، عرّابُه الدرزي وليد جنبلاط:
– «المستقبل» مستفيد بالعودة إلى الساحة من باب السراي، وبالحدّ من تمدُّد التطرُّف التكفيري داخل الطائفة على حسابه.
– «حزب الله» مستفيد من وقفِ عمليات انتحارية لم يعُد قادراً على تحمُّلها في قلب مناطقه.
– «العرّاب» جنبلاط يَطمح إلى مكافأة لقاء وساطته.
لم يصل الأمر بذوي التسوية إلى إنجاز متكامل: رئيس للجمهورية وقانون انتخاب وانتخابات نيابية… فذلك لم يكن مستعجلاً، بل إنّ «حزب الله» يفضِّل إبقاءَ أوراق نائمة في يديه سيضطرّ إلى استخدامها لاحقاً.
اليوم، بعد التدخّل العسكري الروسي ولقاءات فيينا، بدأ المعنيون بالصراع (إيران، تركيا، السعودية، قطر، روسيا، الغربيون وإسرائيل) يَبحثون عن أوراقهم النائمة، في سوريا ولبنان وسواهما، لاستخدامها في التسوية المحتملة. ولذلك، ارتفَع منسوب التوتر الإيراني – السعودي، ومعه اهتزّ التعايش الهشّ تحت سقف الحكومة، بين «الحزب» و«المستقبل».
ويَعتقد كثيرون أنّ «داعش» هي إحدى الأوراق التي سيَجري تحريكها بقوّة خلال هذه المرحلة المضطربة. وأوّل ملامح التحريك محاولة «داعش» أن «تتعملق» إرهابياً خارجَ «أراضيها» في سوريا والعراق. وضرباتُها في مصر ولبنان وأوروبا أوّل الغيث.
هذا الجوّ أدركَه «حزب الله» باكراً، وقبل الآخرين، لأنّه يمتلك من المعلومات ما يَسمح له بذلك. ومن هنا، كانت توجّهاته الإيجابية التي عبَّر عنها في الأسابيع الأخيرة، والتي استغربَها حتى حلفاؤه الذين لا يمتلكون المعطيات إيّاها.
ما هي المؤشّرات إلى توجُّه «الحزب» إيجاباً في الأسابيع الأخيرة؟
1- دعَمَ «الحزب» مسعى الرئيس نبيه برّي إلى عقد جلسة تشريعية، متجاوزاً اعتراضَ العماد ميشال عون. وعلى رغم أنّ الجلسة أقرّت تشريعات تتعلق بالشفافية المصرفية وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وعلى رغم اعتبار الولايات المتحدة «حزب الله» منظّمة إرهابية، فإنّ «الحزب» لم يعرقل إقرارَ التشريعات. وهو يريد تقديمَ القرائن على أنّه ليس إرهابياً، ولا هو خائف من تجفيف منابع الإرهاب، بل إنّه إلى جانب المجتمع الدولي في جبهةٍ واحدة لمواجهة «داعش». وهذا الانطباع جاءت اعتداءات باريس الانتحارية مؤاتيةً له.
2- فجأةً، توَقّف الحراك المدني في الشارع… وحتى إشعار آخر. وعلى رغم أنّ أزمة النفايات تفاقمت، وكلّ الأزمات السياسية والدستورية كذلك، وأضيفَت إليها الهواجس الأمنية، فإنّ المجموعات المدنية والهيئات النقابية هي اليوم في استراحة. وثمّة مَن يقول بأنّ هذه الاستراحة موحى بها – بعلمٍ منها أو بغير عِلم – كما كان نشاطها الزائد موحى به.
3- يتعمَّد كوادر «حزب الله» إطلاقَ خطاب سياسي هادئ وشديد المرونة في الفترة الأخيرة، تجاه تيّار «المستقبل». وعندما يضطرّ إلى التصعيد، يحَيِّد الرئيس سعد الحريري كي يتركَ الباب مفتوحاً للحوار معه، وتالياً مع السعودية.
4- إطلاق نصرالله، قبل عملية برج البراجنة، مباردةَ للتسوية الشاملة «لأنّ المعالجة بالحَبَّة متعِبة جداً». وتتضمّن التسوية المقترحة «الجلوس ثنائياً أو ثلاثياً أو رباعياً للبحث في رئاسة الجمهورية ورئيس الحكومة وتركيبة الحكومة وقانون الانتخاب».
5- ثمّة مَن يتحدث عن مراهنة لدى «حزب الله» على الإفادة من فتح قناة سعودية – إيرانية، ولو في الملف اللبناني وحده. واللقاءات اللبنانية التي جرت في الرياض أخيراً لم تكن أجواؤها سلبية.
وفي الخلاصة، يريد «حزب الله» قطفَ ثمار الخطوات العسكرية الإيجابية التي حقّقها النظام وحلفاؤه في سوريا، بعد التدخّل الروسي. وهو يطمئنّ إلى أنّ أيّ تسوية في سوريا، أيّاً كان شكلها، ستَحفظ الدور لحليفه هناك، وستنعكس قوّةً له هنا.
ويدرك «الحزب» أنّ جلوسه مع خصومه اللبنانيين إلى الطاولة حاليّاً لن يوفِّر تسوية سريعة، لكنّه سيَفتح الباب لتمرير المرحلة بهدوء وبأقلّ الأضرار. وسيستغرق الحوار اللبناني – اللبناني نحو التسوية شهوراً عدة. وهذا الوقت سيواكب تماماً مرحلة الحوار الجاري في فيينا.
في تقدير «الحزب» وحلفائه أنّه سيكون في وضعية أفضل بعد الهجمات الانتحارية، لأنّ المجتمع الدولي سيكون مقتنعاً بأهمّية دوره في لبنان وسوريا. لكنّ خصومَه يراهنون في المقابل على انكشاف أنّ النظام السوري هو الذي خلقَ «داعش» ورديفاتها بسبب رفضِه التسويات السِلمية ومحاربتِه المعارضة المعتدلة، وأنّ تورُّط «الحزب» في سوريا هو الذي يجلب الحربَ السورية بمكوّناتها إلى لبنان.
يَعتقد «حزب الله» أنّ العمليات الانتحارية مرشّحة للاستمرار، وأنّ استعادة التسوية السابقة مع «المستقبل»، في ربيع 2014، التي أوقَفت العمليات الانتحارية، جديرة بوقفها اليوم أيضاً. ولذلك هو يَستعجل المباشرة بالحوار لعَقد تسوية جزئية. ولكن ليس مؤكّداً أنّه يريد انتخابَ رئيس للجمهورية ومجلس نيابي جديد.
ووسط المراهنات على التطوّرات السورية، يبدو الجميع أمام الهواجس لا الآمال: ماذا لو تدهورَت أجواء فيينا؟ هل يتدهور لبنان؟ وهل يكون الانتحاريون أداةً في هذا التدهور؟