في معرض انتقادِه لهجة خطاب السيّد حسن نصرالله الذي شنَّ فيه حملةً غيرَ مسبوقة على المملكة العربية السعودية، قال النائب وليد جنبلاط: «لاحظتُ أنّه لم يَصدر عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية كلامٌ كذاك الذي صَدر في لبنان عن السيّد نصرالله». وأضاف: «لا أفهم لماذا يذهب «حزب الله» أبعد من إيران، في حين أنّ إيران نفسَها لا تتكلم بالطريقة ذاتها».
تساؤل النائب جنبلاط في محَلّه: لماذا يذهب الحزب أبعد من طهران؟ وبالتالي ما الرسالة التي أراد ويريد توجيهَها من وراء تصَدُّرِه المواجهة السياسية مع التحالف العربي-السنّي عموماً والسعودي خصوصاً؟ أوَلم يكن من الأجدى تحييد الساحة اللبنانية عن الأزمة اليمنية التي تحوّلت إلى أزمة إقليمية بامتياز واتّخذَت الطابع السنّي-الشيعي؟
وإذا كانت مصلحة الحزب اليوم الحفاظ على الاستقرار في لبنان، أين المصلحة في تعريض هذا الاستقرار من خلال شَنّ حملةٍ غير مسبوقة على القيادة السعودية تخرج عن أصول التخاطب السياسي والديبلوماسي، ما يؤجّج المشاعرَ المذهبية ويَرفع منسوبَ الاحتقان إلى حَدّه الأقصى؟ ولماذا يتصرّف الحزب على طريقة «ملكي أكثر من الملك»؟
لا يشكّل تصدّر «حزب الله» المواجهة في اليمن سابقةً من نوعها، بل كان سبَقها الحملة التي شنّها على البحرين والقيادة البحرينية والتي كادت تهدّد العلاقات بين بيروت والمنامة لولا مسارعة الرئيس تمّام سلام إلى التوضيح بأنّ الموقف الرسمي تُعبّر عنه الحكومة اللبنانية التي ترفض أيّ تدَخّل في الشؤون اليمنية. وفي هذه المواجهة أيضاً تجاوَز الحزب الموقفَ الإيراني بمسافات، وظهَر وكأنّه المعنيّ مباشرةً بالقضية حتى أكثر من طهران.
وما ينطبق على اليمن والبحرين ينسحب على العراق الذي لم يكتفِ فيه الحزب بتسجيل المواقف، بل أعلنَ عن إرساله مقاتلين لمساندة «الحشد الشعبي» في معاركهم ضد «داعش»، عِلماً أنّ الميليشيات الشيعية العراقية ليست بحاجة فعلية للحزب، وهي تتلقّى مساعدةً عمَلية ونوعية من الحرَس الثوري، وبالتالي الهدف من خطوة دخوله إلى العراق مجرّد توجيه رسالة لكلّ المعنيّين بأنّه يقاتل هناك.
وحَدِّثْ ولا حرج عن الأزمة السورية التي كان باستطاعته أن يتدخّل فيها عسكرياً، على غرار تدَخّل الحرس الثوري في العراق وسوريا، ولكن من دون هذه الحملة السياسية والإعلامية التي رافقَتها وطغَت حتى على الأعمال العسكرية، وكأنّ المطلوب تضخيم مسألة قتالِه في سوريا عن سابق تصوُّر وتصميم، أو كأنّ لهذا القتال وظيفةً عسكرية وأخرى سياسية-إعلامية.
ولا حاجة للكلام عن القضية الفلسطينية التي يتعامل معها «حزب الله» وكأنّها قضية حصرية، ويُزايد فيها، ليس على القيادات والشعوب العربية فحسب، بل على الشعب الفلسطيني أيضاً، ويُعطي لنفسه الحقّ بأن ينوبَ عن الفلسطينيين بتقرير مصيرهم، وتخوين كلّ مَن يخرج عن الاتّجاه والسقف الذي يحدّده ويرسمه.
ولا تقف تدخّلات الحزب عند العَيِّنات التي تمَّ ذكرُها أعلاه، بل تتعدّاها إلى كلّ الدوَل العربية، ومنها على سبيل المثال مصر التي كانت اعتقلت خليّة أمنية للحزب الذي عاد وأطلقَها مستفيداً من الفوضى في المرحلة الانتقالية، ولكنَ إطلاقَه لهذه المجموعة يؤشّر إلى مدى تغَلغُلِه الأمني في المجتمع المصري. وقِس على ذلك في الإمارات والكويت وقطر…
وتأسيساً على ما تقدّم، من الواضح أنّ «حزب الله» يَفتعل تدخّلَه في كلّ شأن عربي من دون أن يعيرَ أيّ اهتمام لتداعيات هذا التدخّل على الوضع اللبناني، ولكنّ السؤال الأساسي الذي يَطرح نفسَه: ما الهدف من وراء تدَخّل الحزب في كلّ شأن عربي؟ ولماذا بَدَّلَ في السنوات الأخيرة في استراتيجيته من التدَخّل المقنّع إلى التدخّل المعلَن؟ ولماذا المجاهرة في التدَخّل أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من أهدافه؟
ولماذا يتقصّد الدفاعَ عن كلّ مكوّن ممانِع أو مقاوم وكأنّه المسؤول عن كلّ محور المقاومة؟ ولماذا انتقلَ من الدفاع عن لبنان إلى الدفاع عن كلّ مكوّنات الممانعة، والتلويح بالرد على إسرائيل في حال استهدافِها أيّ مكوّن ممانع؟
لا شكّ في أنّ أحد أهداف هذا التحَوّل في دور «حزب الله» تظهير دوره الإقليمي الذي يتجاوز البعدَ اللبناني، وذلك خلافاً للصورة التي طبَعت وظيفته قبل الخروج السوري من لبنان وبعدَه، وصولاً إلى الأزمة السورية التي شكّلت منعطفاً جديداً في مسار الحزب ومسيرته.
فلا يمكن تفسير ذهاب الحزب أبعدَ من إيران وتدخّله العلني والمقصود في شؤون الدوَل العربية إلّا في سياق إرادته ورَغبته بإعطاء صورة جديدة عن دوره، وهي أنّه لاعبٌ إقليميّ لا محَلّي فقط.
وقد يكون من أسباب هذا التحَوّل في الدور أربعةُ احتمالات:
الاحتمال الأوّل، حاجة طهران لبديل عن النظام السوري في العالم العربي، حيث لم يعُد ممكناً التعويل عليه، عِلماً أنّ شيعية «حزب الله» تشكّل عائقاً على هذا المستوى.
الاحتمال الثاني، عدمُ رغبة طهران بالتدَخّل بشكل علني ومباشَر في الشؤون العربية، وتفويضُها هذه المهمّة للحزب من منطلق أنّ كِلفة تدَخّله تبقى أقلّ مِن كلفة تدخّلِها.
الاحتمال الثالث، رمزية المقاومة التي راكمَها الحزب على مدى سنوات تخَفّف من الطابع المذهبي للصراع.
الاحتمال الرابع، حاجة «حزب الله» إلى تجاوُز إشكالية سلاحِه في الداخل اللبناني تدفعه إلى تكبير دوره وتضخيمه مِن الحَيّز المحَلّي إلى الإقليمي، وتصوير نفسِه بأنّه مقرّر في رسم مستقبل سوريا وبلاد المنطقة، وذلك في محاولةٍ للتغطية على سلاحه بدوره الإقليمي، فضلاً عن المقايضة بنفسِه مع الدوَل الكبرى في موضوع احتفاظه بهذا السلاح، فيتساهل في مكان ويتشدّد في آخر، ويتنازَل في مكان ويتصلّب في آخر، وكلّ ذلك لهدفٍ واحد ألا وهو احتفاظه بترسانته العسكرية.