فرض التدخل التركي في العمليات العسكرية شمال سوريا منذ أيام قراءة جديدة للإستراتيجية التي يتعاطى من خلالها الحلف الدولي مع مجريات الأزمة السورية. فكلّ التقارير الديبلوماسية تؤكد أنّ «الطحشة» التركية ليست بقرار ذاتي إنما هي نتاج تفاهمات أوسع توحي بمرحلة جديدة تلت اتفاق فيينا النووي. فما هي الظروف التي قادت الى استخدام هذه العصا الغليظة؟
تقاطعت المعلومات التي حملتها التقارير الديبلوماسية الواردة من واشنطن وأنقرة والرياض وعواصم أُخرى تشارك في الحلف الدولي المعلَن من جدة في 11 ايلول 2014 على توصيف واحد للتدخل التركي في مجريات العمليات العسكرية في الشمال السوري، واعتبرته نتاج تفاهمات متقدّمة في سياق الإستراتيجية الجديدة لمواجهة الوضع في سوريا بتعزيز التفاهم التركي ـ القطري ـ السعودي الذي تُرجم بتوحيد القوى العسكرية المناهضة للنظام و»داعش».
لقد ثبت لواشنطن وأطراف في الحلف الدولي الذي يخوض المواجهة ضدّ «داعش» أنّ الدعوة الى الحلول السياسية للأزمة السورية لم تكتمل عناصرها، وأنّ الظروف لم تستوِ بعد. فكلّ الجهود التي بذلت في موسكو وجنيف وحصيلة المشاورات التي يقودها الموفد الدولي ستيفان دوميستورا لم تقنع النظام السوري بعد وحلفاءه الإقليميين والدوليين بضرورة ولوج المرحلة الإنتقالية التي تحدّث عنها مؤتمر «جنيف واحد».
والسبب يعود في ذلك الى استعادة القيادة السورية المبادرة بفضل القدرات العسكرية التي وضعت في تصرفها عقب خسارتها مناطق واسعة في شمال البلاد وعمقها وصولاً الى ما هدّد الساحل السوري الحيوي بالنسبة اليه بكلّ المقاييس.
تزامناً مع التهديدات الجدّية التي واجهته في جنوب العاصمة وريفها الغربي. وهي قدرات أنعشته الى درجة استوعب فيها خسائره في الشمال باستعادة نقاط استراتيجية في جنوب دمشق وغربها معزِّزاً الخطوط الدفاعية حولها تزامناً مع سيطرة حلفائه على جرود القلمون وفتح معركة الزبداني لحماية طريق دمشق – بيروت الدولية وفكّ الطوق عن العاصمة.
عند هذه المعادلة الجديدة التي فرضها النظام كانت واشنطن والعالم الغربي منشغلَين بالمفاوضات حول الملف النووي الإيراني فحصرا اهتماماتهما بمنع تطوّر قدرات إيران النووية في اتجاه استخدامها في المجالات العسكرية.
فتجاهلا ما يجري في سوريا الى أن انتهت المفاوضات مع إيران الى ما انتهت اليه من تفاهمات من دون أن ينالا منها أيّ تعهد بحلحلة الملفات العالقة بينها والغرب في أكثر من منطقة وسوريا واحدة من هذه الأزمات التي تقف فيها إيران في مواجهة بعض مفاوضيها في الملف النووي.
كلّ هذه المعطيات سمحت لإيران وحلفائها الاحتفال بالإنتصار النووي من طرف واحد على وقع الخلافات في تقويم التفاهم بين واشنطن وحلفائها، ولا سيما منها الدول الخليجية التي تقود الى جانبها حلفاً دولياً في سوريا والعراق وآخر في اليمن وهو أمر أدّى الى خلل إضافي في العلاقات الدَولية التي لا يمكن واشنطن وعواصم أخرى أن تسمح بتماديه. وعلى قاعدة سعي واشنطن وحلفائها للحدّ من إستثمار طهران هذا التفاهم في اتجاه تعزيز سيطرتها، كان لا بدّ من ردٍّ على الإستراتيجية الإيرانية بالسرعة القصوى.
فوقف الجميع الى جانب الحلف الذي تقوده السعودية في اليمن فعزّزت من قدراته العسكرية بما تحتاجه العملية الجارية لاستعادة عدن ومناطق أخرى. وأبرمت تفاهماً سريعاً مع تركيا التي كانت تنتظر اللحظة الحاسمة للإنتقام من عدوَّيها المتنازعَين على طول الحدود السورية – العراقية معها الأكراد وداعش في آن. فتبادلتا الاذونات عقب العملية الإنتحارية ـ الهدية التي قدّمتها «داعش» للقيادة التركية والإعتداء على مواقع للجيش في أكثر من نقطة حدودية.
ففي مقابل سماح تركيا لواشنطن ودول الحلف باستخدام قاعدة «انجرليك» العسكرية وافقت الأطراف الأخرى بما فيها دول الحلف الأطلسي على قيام انقرة بعملية عسكرية واسعة براً وجوّاً كانت تحلم بها منذ سنوات على طول حدودها ضدّ مواقع الأكراد و»داعش» بهدف توفير «منطقة آمنة» ربما ستمتدّ الى أكثر من 40 كيلومتراً في عمق الاراضي السورية قبل أن تتوسّع في عملياتها العسكرية ضدّ الأكراد في الأراضي العراقية.
فقد كان واضحاً التفاهم الذي تمّ بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والتركي رجب طيب اردوغان، في الاتصال الذي تمّ بينهما على تكثيف المعركة ضدّ «داعش»، وتسخير جهودهما المشترَكة من أجل الأمن والاستقرار في العراق، وحلٍّ سياسي في سوريا. في ما راح «البيت البيض» ليؤكد علناً أنّ الدولتَين ستبقيان موحدَّتين في المعركة ضدّ الإرهاب وأمن الحدود التركية.
ولا يغفل العارفون بما يجري أهمية أن تسبق هذه التطوّرات الزيارة التي سيقوم بها وزير الخارجية الأميركية جون كيري للمنطقة خلال أيام لتكريس هذه التفاهمات.
وعليه لم يعد السؤال مطروحاً لماذا كان التوقيت اليوم باستخدام العصا التركية الغليظة؟ ليُطرح سؤال آخر: هل سيتفهّم الإيرانيون حجم الرسالة الدولية؟ وما سيكون موقف الروس من نتائجها؟