لم يكن لقاء الموفد «القواتي» ملحم رياشي في الرابية الأول، وعلى ما يبدو لن يكون الأخير. على هامش هذه الزيارات عزف على موجة تفاؤل وايجابية وكلّ المصطلحات الخشبية التي ترافق عادة هكذا لقاءات، والتي تخفي في طياتها صعوبة الاعتراف بحوار الاضطرار الذي فرضه الحوار الآخر (السنّي ـ الشيعي) على كلٍّ من عون وجعجع، تحسّباً من الأيام وغدرات الزمان.
للمسيحيين ايضاً «احتقانهم المذهبي» الذي بات عليهم أن يعملوا على تنفيسه، ولم لا، فحوار «المستقبل» و»حزب الله» الذي جاهر طرفاه في أنه حوار بين السنّة والشيعة، جذب عون الى جعجع، وجعجع الى عون، وطالما أنّ الموسم موسمُ حوارات مذهبية، فللمسيحيين أيضاً حوارهم داخل المذهب الواحد، الذي يحتوي مذاهب، لا بل مدارس من الاقتتال الدموي والسلمي، سبق بكثير الاقتتال الشيعي ـ السنّي، وكان السبب في مجموعة من المراحل الانتحارية التي قوّضت موقع المسيحيين ودورهم.
شجع تيار «المستقبل» «القوات اللبنانية» على الحوار مع عون من دون قصد أو تخطيط. في البداية كان حوارُ «المستقبل» مع عون الذي خشي جعجع من أن يؤدي رئاسياً الى ما لا تُحمد عقباه، وفي النهاية قبل «المستقبل» بالجلوس الى طاولة حوار ثنائي مع «حزب الله»، وكلّ ذلك حدا بجعجع الى التشبّه بـ»المستقبل» على قاعدة أنّ ما بات حلالاً للآخرين، لن يكون محرَّماً عند المسيحيين.
الواضح أنّ زيارات «القوات» الى الرابية، تحصل تحت عنوان الاستعداد لقول اللا لأيّ تسوية لا ترضى عنها «القوات»، وفي هذا الإطار، وعلى رغم عودة جعجع مرتاحاً من السعودية، فإنّ الاحتياط يبقى واجباً، اذ لم يعد هناك مِن مشكلة في فتح الابواب مع عون، بعد أن تراجع عن حال الانكار الدائمة بوجود أحد غيره على الساحة المسيحية، واعترف بجعجع مرشحاً منافساً وندّياً.
تتحدّث المعلومات عن ملفات للنقاش بين «القوات» وعون، تبدأ من ملف الرئاسة، وتمتدّ الى ملف الحزب وقتاله في سوريا، وتصل الى ملف الادارة والفساد، وتضيف أنّ هذا الحوار يبدأ بالتفتيش عن قواسم مشترَكة، ولا ينتهي بتحديد مواعيد لزيارات، الى الرابية او معراب، إلّا اذا تقدّم الحوار الى اتفاق على نقاط محدَدة.
على رغم أنّ هذين الحوارين المتوازيين مفيدان في الشكل، فإنّ مشهداً من نوعٍ آخر يبدو كئيباً داخل 14 آذار، إزاء النظرة الى هذين الحوارين.
في المبدأ لا يعترض أحدٌ على الانفتاح السنّي ـ الشيعي، لتخفيف الاحتقان المذهبي، لكنّ بداية الحوار بين «المستقبل» و«حزب الله» تعطي انطباعاً، بأنّ الحزب يكرِّر دعوة «المستقبل» الى الحوار، بهدف شراء الوقت، في مرحلة يحتاج فيها للتهدئة قبل الدخول في جولة جديدة من المواجهة، وبالتالي فإنّ مجرد قبول «المستقبل» بالتحاور مع الحزب على قاعدة العلاقة السنّية ـ الشيعية، يشكل تراجعاً كبيراً، وعودة الى تكريس منطق المربعات الطائفية والمذهبية، التي نجحت قوى 14 آذار في إلغائها عام 2005.
معايير هذا المشهد تنطبق على حوار جعجع وعون، فهذا الحوار يعكس في النهاية انتصارَ منطق عون القائل بضرورة توحّد المسيحيين تحت قيادته، لمواجهة الغلبة الاسلامية، وهذا ايضاً يجوّف فكرة 14 آذار ومعناها ورمزيتها.
ألم يكن حَريّاً بـ«المستقبل» أولاً وبـ»القوات» ثانياً، أن لا يقبلا الذهاب منفردَين الى حوار الهواجس المذهبية؟ وألم يكن الحري بهما أن يصرّا على حوار وطني شامل، على قاعدة الاتفاق على محاولة إنقاذ لبنان، بعد سلسلة العواصف التي ضربته، والتي تكاد تضعه في خانة الفوضى واللاستقرار؟
الجواب على هذا السؤال ستحدّده الخطوات المقبلة لهذين الحوارين، علماً أنّ كلّ التجارب والأفخاخ السابقة، دلّت على أنه كلما ذهب أيّ طرف في 14 آذار الى الطرف الآخر للتفاهم على تسوية منفردة موضعية، كلما أضعف نفسه وأضعف القوى الاستقلالية، وأمدّ «حزب الله» وحلفاءه بما يريدونه من وقت مستقطع، تمهيداً لجولة انقضاض جديدة.