IMLebanon

لماذا يستعصي على “البعض” أن يقلب صفحة 13 نيسان إلى الأبد؟

مع حلول كل ذكرى سنوية لاندلاع الحرب الاهلية في لبنان ، تطلق بعض الشرائح الاجتماعية العنان لمخاوفها من تجددها، وتنطلق معها موجة تحذيرات من امكان اشتعال شرارتها بشكل ما ليصل هذا البعض في خاتمة التعليل والتحليل الى استنتاج يبدو بالنسبة اليه احد الراحتين وهو ان الحرب التي يتم الترهيب منها لم تشهد بالاصل نهاياتها الجادة بل ما برحت جمراً تحت رماد ، لذا فهي تسري في اوصال الاجتماع اللبناني سريان الداء الفتاك لكن الصامت.

وعليه ثمة ما يشاكل القناعة الجمعية لدى الوان الطيف اللبناني، وفحواها ان البنادق وإن “ذبلت” وفق تعبير الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، الا ان المؤهلين والمرشحين لامتشاقها واشهارها ثانية يمارس كل على طريقته حربه الصغيرة البديلة من الحرب الاوسع التي تعتمل في دواخله ولا وعيه وذلك تحقيقا لمقاصد شتى قد يكون ابرزها العجز عن الفعل واجتراح التسويات والحلول.

لألف سبب ووظيفة تبقي النخب السياسية الحرب حاضرة في الذاكرة والوجدان والشارع كأمر واقع لا شفاء منه، ولكن صار من المشكوك فيه بفعل تجارب الربع قرن التي اعقبت انطواء بيارق حروب خطوط التماس الاساسية وتلك التي نشأت لاحقا في المناطق والملاعب الخلفية الخاصة بكل جماعة، ان تعود الايام القهقرى لتنتصب مجددا المدافع والراجمات ويعود الاحتراب الاهلي الى غابر عهده وايامه الخوالي. المانع والرادع ليس افتقاد السلاح، فأحداث طرابلس الاخيرة قبل نحو عامين وخطوط التماس التي انفتحت في قلبها ولحقبة زمنية لا يستهان بها ، اظهرت بما لا يرقى اليه شك سهولة الحصول على العتاد اللازم وفي لحظة شاءها المعنيون. ولكن الحائل دون عودة التقاصف والاحتراب على نحو يجدد سني الحرب الاهلية امور اساسية عدة في مقدمها:

– غياب القضية الكبرى التي يمكن ان تكون شعارا يتم توسّله والتلطي خلفه للانزلاق الى مغامرة الحرب الاهلية المجنونة.

– صعوبة ايجاد مقاتلين يمكن ان يعيدوا تجربة الحرب المنطفئة نارها منذ عام 1990. فتلك الحرب المشؤومة سبقتها كما هو معلوم اعوام من الحشد والتعبئة في عالم استهلكته صراعات الحرب الباردة بين اليسار الذي شطحت به احلام التغيير، واليمين الذي كان آنذاك يخوض غمار معركة دفاع مصيري في وجه الزحف الواعد والهادر.

– اعوام الحرب وما تلاها رسخت في وعي ولاوعي الجماعات قناعة جوهرها استحالة التغيير في بنية النظام اللبناني الذي يصمد ويستمر ويستعصي على كل محاولات التغيير والتطوير والتحديث، وانه يأبى خلع ثوب الطائفية والمحاصصة عنه مهما تعرض له.

– ان ثمة قناعة بدأت تترسخ عنوانها العريض ان هذا البلد جرم صغير لا يستطيع الانفكاك او التلفت من مدارات الصراعات الاقليمية، ولم يعد مسموحا له بعد الان بان يشبه نفسه ويكون نموذج فرادة في كل شيء كما كان. ومن البديهي ان تجربة الاعوام التي تلت اشتعال فتيل الازمة في سوريا آية وبرهان لا يرقى اليه الشك، اذ ان لبنان صار باعتراف الجميع اسير انتظار جلاء المشهد الاقليمي وعلى اي نحو سيستقر لكي تسنح فرصة حسم الملفات الكبرى وفي المقدمة ملء الشغور الرئاسي.

واذا كانت كل هذه المعطيات والوقائع تسقط تلقائيا هواجس المهجوسين من عودة “بوسطة الحرب”، فلماذا اصرار البعض على ابقاء شبحها حاضرا وتقام من اجل درء مخاطرها وشرورها الصلوات المشتركة على ادراج المتحف الوطني سنويا؟

ثمة من يحلو له الاجابة بأن ذلك المشهد الوطني الجامع هو فعل مطلوب بذاته كونه صرخة تحذير مدوية من الحرب التي ما ذاق البعض من ويلاتها بعد ، وتذكرة للذين خبروا شرورها ومراراتها بأن عليهم الا يكرروا تجرع الكأس العلقمية الطعم. ولكن ذلك على بداهته لا يسقط احتمالين لشعور الخوف المقيم من تجدد الحرب المطفأة نارها:

الاول ان هناك، وخصوصا في النخبة الحاكمة ، من يطيب لهم التلويح دوما بفزاعة الحرب لان ذلك بالنسبة اليهم مانع دون التفكير بأي تغيير للنظام وحائل دون العمل لبلوغ اي تطوير له شكلا ومضمونا، فتكون لهم فرصة الاستمرار بالقبض على مقدراته، اي ادامة التجربة السلطوية التي نهضت مباشرة بعد الطائف رغم ان بعض اركان هذه النخبة بدأوا يقرون صراحة بأنها تجربة عقيمة لا تؤمن استقرارا ولا تحول دون تجدد الاضطراب الاجتماعي ، وبالتالي فهي وصفة للحرب الاهلية الباردة التي يشكو الجميع من استمرارها. وفي هذا السياق يصب الكلام الاخير للنائب وليد جنبلاط عن عدم تصديق الناس كلام الطبقة السياسية ووعودها ، وينطبق ايضا على كلام مماثل سبق للرئيس نبيه بري ان قاله في ذروة الحراك الشعبي قبل اشهر.

الثاني، قد يبدو مكتسبا مشروعية اكبر وهو ان الكيان لم يعرف منذ استقلاله استقرارا بل ظل مقيما على قلق وتأزم وانزلاق نحو الحرب او وقوف على شفا حفرة منها.

وفوق هذا كله كان الغياب الدائم للدولة القوية العادلة. وسواء كانت دولة مؤجلة وفق وصف منظّرين او كانت دولة مغيبة وفق آخرين، فانتظار ولادة الدولة المقبلة الجامعة ظل بمثابة “اليوتوبيا” او الحلم المفقود المنتظر. وفي كل الحالات كانت الدولة ومازالت وجهات نظر بين المجموعات المختلفة والمتناقضة، فهي في مرحلة ما قبل الطائف ملك يمين طائفة، وبعد الطائف آلت ناصيتها الى طائفة اخرى، وفي كلتا الحالين ظل هناك من يشكو ويئن وينتظر لحظة ازاحة لما يراه امرا مفروضا يكتنفه البطلان.

ماذا بعد؟

قد يكون ثمة اطمئنان الى ان الحرب الاهلية بمواصفاتها المألوفة لمدة 15 عاما ليست بعائدة وفق تهويل البعض، ولكن لا احد ينكر ان التناقضات المستعرة حاليا ومنذ زمن ليست استمرارا للحرب بشكل او بآخر لاسيما ان ثمة ما يشبه الاجماع على ان وضع مؤسسات الدولة والحكم من حيث الاهتراء والترهل اشبه ما يكون بوضعها ابان سني الحرب الاهلية مضافا الى الرأس المقطوع للجمهورية.

اذاً آن الاوان للاعتراف بأن تجربة “الحضانة السورية” وما تلاها منذ 11 عاما لم تنتج تسوية وطنية تاريخية تقدم الدولة القوية العادلة التي تحظى بثقة غالبية ابنائها ، بل استدعت دوما طيف الحرب التي “ما ذقتم وما علمتم” على حد قول الشاعر العربي الجاهلي الذي كوته نار حرب داحس والغبراء.

ما من احد الا يريد ان يقلب الصفحة كما طُلب منا ، وما من احد الا يريد للحرب ان تنذكر وما تنعاد، ولكن ما زالت فرائصنا ترتعد عند تذكّرها . لماذا لا يستطيع بعضنا ان يقلب صفحة 13 نيسان الى الابد؟