مرّةً أخرى، أجد نفسي مضطرّاً الى الخوض في مسألة الأرقام، بعد أن خلع بعض السّاسة والاقتصاديين والإعلاميين قبّعات الترفّع والموضوعية والمسؤولية، متناولين مسألة تعويض نهاية الخدمة لدى العسكريين، تضخيماً وتشويهاً للحقائق، وإيغالاً في التعرّض لخصوصيات الضباط وفي مقدّمهم العمداء، وهم يعرفون حقّ المعرفة أنّ هذا التعويض بالكاد يشتري شقةً متواضعة في أحد مشاريعهم السكنية الضخمة، أو يعادل راتب سنة واحدة لموظف كبير في إحدى المؤسسات العامة، ولكنّه حتماً لا يعادل مدخول يومٍ واحدٍ من صفقاتهم المشبوهة.
بالعودة إلى صلب الموضوع، ما هو مضمون تدبير الاستنفار رقم (3)، وما هي مفاعيله وما هي عواقب إلغائه على الرواتب التقاعدية للعسكريين؟
أولاً: وفق ما نصّ عليه قانون الدفاع الوطني، يُتّخذ هذا التدبير في حالتي الحرب وحفظ الأمن، وهو يهدف إلى رفع نسبة الجهوزية لدى جميع الوحدات العسكرية بنسب مختلفة، والتي قد تصل إلى 90% لدى الوحدات المقاتلة في الظروف الدقيقة، و100% خلال العمليات العسكرية. وبناءً على قرار مجلس الوزراء الرقم (1) الصادر في العام 1991، كُلّف الجيش ولا يزال، بمهمة حفظ الأمن على مختلف الأراضي اللبنانية بالإضافة الى مهمّته الدفاعية الأساس.
ثانياً: إنّ رفع نسبة الجهوزية المشار إليها في البند أعلاه، تتطلّب من العسكريين العمل لساعات إضافية، في الليل والنهار، وفي ظروف قاسية. غير أنهم وخلافاً لسائر موظفي القطاع العام، لا يتقاضون بدل هذه الساعات شهرياً، بل يتقاضونه في نهاية الخدمة، وبحقوق منتقصة للغاية، كما سأُبيّن لاحقاً، وذلك تحت اسم «تعويض الضمائم الحربية»، بحيث تُضاف سنتان إلى كل سنة خدمة فعلية، ويحسب هذا التعويض عن السنوات التي تزيد على الـ 40 سنة فقط.
ثالثاً: إنّ القيمة الحقيقية للتعويض يجب أن تعادل مجموع بدل الساعات الإضافية التي يشغلها العسكري، مع الحفاظ على القيمة الشرائية المتآكلة بفعل مرور الزمن، وهذا ما ليس حاصلاً على الإطلاق. فعلى سبيل المثال: يخدم العسكري في الوحدات المقاتلة 20 يوماً على الأقل في الشهر الواحد، أي 680 ساعة (مع الأخذ بالاعتبار مضاعفة عدد ساعات العمل في الليل والعطل الرسمية كما هو معمول به في قانون العمل)، وإذا اعتبرنا أنّ الحدّ الأقصى لعمل الموظف الرسمي المدني هو 160 ساعة شهرياً، فهذا يعني أنّ عدد ساعات العمل الإضافية لدى العسكري يبلغ (680-160) = 520 ساعة شهرياً، فما هي قيمة المبالغ المتراكمة لمصلحته لو تقاضى بدل هذه الساعات شهرياً كسائر موظفي القطاع العام؟
إذا احتسبنا بدل ساعة عمل العسكري كحدّ أدنى 8000 ل.ل، فإنّ مجموع بدل الساعات يبلغ (520x 8000) أي 4,160,000 ل.ل. شهرياً ، وإذا افترضنا أنّ العسكري قام بايداع المبالغ الشهرية المتتالية في أحد المصارف بفائدة 7%، لبلغت قيمة الأموال المتراكمة بعد ثلاثين سنة خدمة فعلية نحو 5 مليارات ل.ل، في حين أنّ معدّل تعويض العسكري حالياً وبعد خدمته المدّة المذكورة لا يتعدّى الـــ 250 مليون ليرة.
أمّا بالنسبة إلى العسكري الذي يخدم في إطار الدوام الرسمي المطبَّق في الوحدات الثابتة أي غير المنتشرة عملانياً، فهو بالإضافة إلى خدمته النهارية طوال أيام العمل، ملزمٌ بالخدمة ليلاً في مركز عمله لمدّة يومين في الأسبوع على الأقل، أي ما يعادل 8 أيام في الشهر أي 136 ساعة شهرياً، وبعد مضاعفة هذه الساعات استناداً إلى قانون العمل تصبح 272 ساعة. ولو طبّقنا القاعدة أعلاه، لبلغ مجموع حقوق العسكري بعد ثلاثين سنة خدمة نحو 2،6 مليار ليرة. فأين نحن من هذه الحقوق؟ وأين نحن من بدل الساعات الإضافية للموظفين المدنيين؟ والتي أقترح أن تُسمّى «ضمائم سلميّة».
رابعاً: في حال إلغاء تدبير الاستنفار كلياً لجميع العسكريين مقابل تعديل سلسلة الرتب والرواتب الخاصة بهم، بما يحقّق المساواة في أساسات الرواتب والدرجات بين جميع موظفي القطاع العام وفقاً للفئات الوظيفية، وإذا تمّ منحُ العسكريين بدل الساعات الإضافية المشار إليها، فإنّ التكلفة الإجمالية ستصبح باهظة جداً على خزينة الدولة، لأنّ تعديل السلسلة سيرتب على الخزينة للجيش وحده، زيادة على الاجور قدرها 1100 مليار ليرة سنوياً، هذا من دون احتساب تكلفة الساعات الاضافية، فيما تراوح تعويضات التدبير رقم 3 للعسكريين المسرّحين كلّ سنة، والذين يبلغ عددهم نحو 2500 عنصر ( تسريح منتظم) ما بين 400 و500 مليار ليرة سنوياً. فأيهما يا ترى أفضل للخزينة؟
خامساً: في حال إلغاء تدبير الاستنفار رقم (3) للوحدات الإدارية، والإبقاء عليه للوحدات العملانية، من دون تعديل سلسلة الرتب والرواتب للعسكريين، فإنّ هناك مجزرةً ستقع بحق عسكريّي الوحدات الإدارية الجدد لدى إحالتهم لاحقاً على التقاعد، سواء لجهة حرمانهم نهائياً من أيّ تعويض، أو لجهة تدنّي رواتبهم التقاعدية بشكلٍ كبيرٍ جداً، وذلك لسببين: الأول؛ هزالة رواتبهم الناجمة عن السلسلة الحالية وعدم تدرّجهم بشكلٍ كافٍ بحكم السنّ القانونية للتقاعد، والثاني؛ عدم بلوغهم الــ40 سنة خدمة، وهي المدّة التي تخوّلهم وفق القانون، الحصول على راتب تقاعدي يساوي 85% من أساس الراتب الأخير في الخدمة. على سبيل المثال: رقيب (فئة رابعة) لديه 20 سنة خدمة، أساس راتبه 1,589,000 ل.ل، يحسب راتبه التقاعدي وفقاً للقانون على الشكل الآتي:(1,589,000 ل.ل/ 40)x 20x 85% = 675,000 ل.ل، أي ما يعادل 1/6 (سدس) الراتب التقاعدي لموظف مدني من الفئة عينها. وإذا خدم هذا الرقيب 30 سنة (الحدّ الأقصى للخدمة)، فإنّ راتبه التقاعدي يبلغ: (1,885,000 ل.ل/40)x 30×85% = 1,200,000 ل.ل.أي نحو ثلث راتب هذا الموظف، والأمر نفسه ينسحب على سائر رواتب الضباط والعسكريين.
فهل يعقل حينئذٍ وجود هذا التمييز النافر بين القطاعات العسكرية والمدنية؟ وهل تكفي تلك الرواتب الزهيدة لتأمين أبسط الاحتياجات الأساسية للعسكريين المتقاعدين، في ظلّ تصاعد غلاء المعيشة وازدياد الأقساط المدرسية والارتفاع الجنوني في أسعار العقارات؟ ثم مَن يضمن بعد ذلك دخول العناصر الأكفياء الى الجيش؟ ومَن يضمن بقاء التنوّع الوطني المطلوب داخل صفوفه؟ ومَن يتحمّل عواقب هذا الأمر الخطير؟
ممّا سبق، تتبيّن بشكلٍ جلي استحالة إلغاء هذا التدبير، إلّا في حال تعديل سلسلة الرتب والرواتب للعسكريين وإعطائهم بدل الساعات الإضافية، أسوة بسائر موظفي القطاع العام، وهذا ليس من مصلحة الخزينة كما أوضحت آنفاً في متن المقال.
يبقى السؤال المحيِّر الذي يضجّ في صدور العسكريين، لماذا استهدافُهم وحدهم من دون سائر موظفي القطاع العام، وهم الذين حصلوا على أقل نسبة زيادة في السلسلة؟ فهل يجوز بشخطة قلم إلغاء ما سُمّي خطأً بتعويض التجهيزات العسكرية الذي يشكل 25% من راتب الضابط المتقاعد، وهو في الحقيقة بدل
تخفيض أساس راتب؟ وهل يعلم أصحاب الشأن أنّ التخفيضات المقترحة على رواتب العسكريين المتقاعدين ستعود بهم إلى ما قبل وقبل السلسلة؟
ختاماً، إذا لم يكن بدّ من مساهمة الموظفين في تخفيض عجز موازنة الدولة، فلتُستحدَث، مثلاً، ضريبة دخل على رواتب جميع الموظفين المتقاعدين من دون استثناء، ولتُضاعَف قيمة المحسومات التقاعدية لموظفي الخدمة الفعلية، ولا بأس إذا كان هناك بعض الظلم، عملاً بالقول المأثور: « ظلمٌ في السويّة عدلٌ في الرعيّة».