إستناداً لما تسرَّب من معطيات حول اقتراح وزارة المالية لمشروع الموازنة العامة لعام 2019، والذي يتضمن بنوداً «إصلاحية» كما سمّوها، فيما خَص ادارة مالية الدولة بشكل عام وواجبات وحقوق الموظفين والمتقاعدين، والتي يمكن تلخيصها فيما خَص العسكريين المتقاعدين، بإلغاء بند التجهيزات العسكرية للضباط منهم والمؤهلين، وبحسم نسبة بحدود 3 بالمئة من معاشاتهم بدل طبابة، وبحسم نسبة أخرى مماثلة تقريباً كضريبة دخل على هذه المعاشات، والأهم من ذلك جاء الاقتراح بتخفيض معاش العسكري المتقاعد المتوفى حوالى خمسين بالمئة بعد وفاته، وحرمان المستحقين من ورثته من الاستفادة منه الّا بشروط وتقييدات ضيقة جداً، يمكن القول إنّ هذه البنود «الاصلاحية» جائرة بحق العسكريين المتقاعدين.
مبدئياً، من الناحية التعاقدية القانونية، لا يمكن للدولة ضرب مبدأ التعاقد وشروطه وبنوده للمتطوعين العسكريين من مختلف الرتب ومخالفة مفهوم العقد عند تطوع العسكري (ضابط ، رتيب أو جندي)، وذلك من خلال تخفيض الحقوق التي كفلها اساساً عقد التطوع، وذلك على الشكل التالي:
كل متقاعد حالي كان قد اختار التطوع وتَقبُّل مخاطر مهمات الجيش والخدمة العسكرية، إعتمد على انّ حقوق ومعيشة عائلته مؤمنة قدر الامكان بعد وفاته، إذ انه مُعَرَّض للوفاة بشكل كبير أثناء تنفيذ مهماته، والتي هي بطبيعتها مهمات خطرة وحساسة، وهو لا يملك اساساً كمتطوع خيار الذهاب او عدمه الى الحرب ومواجهة الاخطار المتأتية عن معارك عسكرية او عن حوادث ارهابية او عن جرائم جنائية يُكَلّف بملاحقتها، لأنّ ذلك مفروضٌ عليه استناداً لالتزامه عند توقيعه عقد التطوع، وهذا يقابله ما تقدّم له الدولة من أمان اجتماعي، تستفيد منه عائلته في فترة خدمته الفعلية وبعد تقاعده، واذا ضُرب هذا المبدأ اليوم من خلال الانتقاص وبشكل كبير من حقوق عائلة المتوفّى المتقاعد، فأين تصبح مقومات ومفاهيم الخدمة العسكرية الخطرة وتقديماتها المناسبة؟
من هنا تطوَّر عبر التاريخ مبدأ أحقية تقديمات وحقوق عائلات المتقاعدين العسكريين، وهذا مفهوم ثابت ومعروف لدى أغلب الدول التي تؤمن هذه الحقوق والتقديمات الاجتماعية والصحية لجميع مواطنيها ضمناً عائلات العسكريين، في الوقت الذي تذهب به دولتنا الكريمة الى انتزاع هذه التقديمات والحقوق الثابتة تاريخياً وقانونياً ودستورياً، لأنها ضعيفة أمام حيتان الفساد والمال، ولأنها لا تستقوي الّا على المتقاعدين الذين تجدهم فاقدي القدرة على المواجهة، فهم غير مكلفين بأية مهمات مثل غيرهم من الموظفين الحاليين، قد يؤثر إضرابهم عن تنفيذها على مسار عمل الدولة.
لناحية اقتراح إلغاء بدل «تجهيزات عسكرية» للمتقاعدين، على اعتبار أنّ هذه التجهيزات لا يحتاجها المتقاعد، فهذا الأمر يُعتبر تحايلاً على المتقاعدين، وذلك من خلال التملّص من تعهد حكومي سابق عند دراسة سلسلة الرتب والرواتب الاخيرة، بتثبيت هذا البند في المعاش واعتباره مُتَمِّمَاً للراتب، كون النسبة التي حصل عليها المتقاعدون المستفيدون من بند تجهيزات عسكرية كانت أقل بكثير مما حصل عليه المستفيدون في القطاعات الاخرى.
فهل سلكت جميع إجراءات الدولة الاصلاحية لناحية محاربة الهدر والفساد وترشيد الانفاق غير المتوازن وتحصيل حقوق المالية العامة المسلوبة، وأصبحت معالجة عجز المالية العامة متوقفة فقط على حسم مبلغ يوازي المليون ليرة من معاش كل ضابط متقاعد، وعلى المحسومات الاخرى المقترحة والتي ستطال كافة المتقاعدين العسكريين؟
هل يقوم تصحيح هذه الموازنة على تكليف المتقاعدين العسكريين بنسبة مئوية على معاشهم بدل طبابة عسكرية، وبمبلغ يكاد يوازي قيمة بدل تأمين صحي في شركات التأمين المدنية، وبذلك تكون الدولة قد ألغت تقريباً تكفُّلها بطبابة العسكريين المتقاعدين ووضعتها على حسابهم الشخصي، وذلك في الوقت الذي يجب أن تكون الطبابة الصحية مؤمنة لجميع المواطنين، ضمناً العسكريين؟؟
هل هناك منطق عادل وقانوني يسمح للحكومة بتكليف المتقاعدين بضريبة دخل على معاشاتهم التقاعدية بنسبة تماثل أو تتجاوز ما يُكَلَّف به أصحاب الدخل المنتجين، في الوقت الذي كان يتم فيه اقتطاع بدل محسومات تقاعدية على هؤلاء طيلة فترة خدماتهم الفعلية، وهذه المحسومات من المفترض أن تكون هي المصدر الرئيس لما يحصلون عليه اليوم من معاشات تقاعدية؟؟
لقد بَنوا فكرتهم الهجومية على حقوق المتقاعدين من الضباط، ومن ضمن حملة اعلامية واسعة، على أنّ تعويضات نهاية الخدمة لعدد من الضباط الذين تقاعدوا مؤخراً تعادل مبالغ كبيرة، مُتناسين ان القانون يرعى ذلك من خلال زيادة بدل الضمائم الحربية عند تدابير الاستنفار أثناء الحرب، مع العلم انّ هذه المبالغ قد تكون بالكاد كافية لشراء شقة مناسبة، او بالكاد تكفي لإكمال تعليم أبنائهم كما كان مفترض ان تتكفل به الدولة (استناداً ايضاً لشروط وتقديمات عقد التطوع الاساسي لكل متطوع)، وحيث تتراجع حالياً هذه التقديمات المدرسية بشكل كبير وهي مرشحة لأن تختفي بالكامل.
في الواقع، لا يمكن حصر المتقاعدين بهذه المجموعة الاخيرة، لأنّ أغلبهم تقاعدوا قبل سلسلة الرتب والرواتب الاخيرة، ومن كان منهم يمكن أن يستفيد في تعويض نهاية خدمته على الاقل من سلفة الخزينة (مبلغ 200 الف ليرة)، تَحايلوا عليه بعملية لصوصية وحرموه منها، وأغلب هؤلاء المتقاعدين لم يستفيدوا من السلسلة الّا بنسبة محدودة، لتأتي اليوم الحكومة، وعبر مشروعها المقترح، لانتزاع هذه الزيادة الضئيلة منهم عبر إلغاء بند تجهيزات عسكرية وفرض رسوم على طبابتهم وعلى معاشهم التقاعدي.
فهل يمكن ان نستنتج من هذه الاقتراحات الحكومية الجائرة، والتي ستطال حقوق الضباط المتقاعدين، أنّ من هم في السلطة اليوم اكتشفوا انّ أغلب هؤلاء الضباط أصبحوا متوحّدين حول قناعة ثابتة بعدم أهلية هؤلاء المسؤولين لإدراة الدولة، فجاء استهدافهم الظالم ضمن مشروع الموازنة اليوم كردّ او انتقام على ذلك ؟؟؟
واذا سلَّمنا جدلاً بذلك – وطبعاً هذا صحيح – فهل حاول رجال السلطة اكتشاف سبب هذه النقمة عليهم من أغلب الضباط المتقاعدين، والذين بغالبيتهم تولّوا المسؤوليات الامنية والعسكرية في أصعب الظروف التي مرّت على البلاد، وكانوا على قدر المسؤولية التي أوصلت الوطن الى بر الامان الذي يتنعّم به اليوم هؤلاء المسؤولون، فكان الوفاء لهم هكذا، من خلال تعريض كراماتهم بإجبارهم على التظاهر والاعتصام والاعتراض العلني بطريقة لم تكن تليق يوماً بهم، لأنّ أغلبهم محتاجون او متوسّطو الحال مادياً، حيث لم يلجأوا للسرقة أثناء خدمتهم، وأيضاً لأنهم خائفون في ظل هذه السلطة على حقوقهم وحقوق اولادهم، ويحاولون الحفاظ على لقمة عيشهم التي طالما تغمَّسَت بالجروح والعرق والدماء ؟؟