مهما كانت النتائج التي آلت اليها جلسة مجلس الوزراء في القصر الجمهوري أمس للبحث في موازنة العام 2019، فإنها مكملة للجلسات التي انعقدت في السراي الحكومي. فالجميع يعرف انّ رئيس الحكومة سعد الحريري أنهى المناقشات قبل بلوغها النهايات الطبيعية، وبقي التفاهم على بعض الأرقام والإقتراحات معلّقاً على أمل التوافق عليها في بعبدا. ولذلك طرح السؤال: ألم يكن الحريري قادراً على وقف «المسلسل المكسيكي» قبلاً؟ ولماذا كان صبوراً؟
للمرة الأولى يجمع عدد كبير من الوزراء، وخصوصاً المخضرمين منهم، على توصيف واحد لمسلسل جلسات مجلس الوزراء التي خصصت للبحث في مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2019، حيث اعتبروا انّ ما جاءت به لم يكن في حجم الآمال التي بنيت على حكومة الوحدة الوطنية التي اتخذت من «الى العمل» شعاراً لها، وكان لا بد من وَقفه بعد الجلسة العاشرة او الحادية عشرة على الأكثر.
ففي الجلسة العاشرة للحكومة التي عقدت في 13 ايار، وبينما كان البحث قد شارف على نهايته لولا موجة التطويل والمناقشات «العقيمة» التي لم تقفل أيّاً من المواضيع المطروحة، كان البحث في بعض الأرقام والتقديمات الخاصة بالمؤسسات والجمعيات والهيئات التي تحصل على مساهمات من الدولة قد شارَف على نهايته بعد الفصل ما بين الوهمي منها وتلك التي تقدّم الخدمات الجدية والأساسية للمواطنين، باستثناء تلك السياحية التي تَوسّع النقاش في شأنها من دون أن يطرأ اي تعديل على أرقامها. وعندما سُئِل وزير الإعلام جمال الجرّاح عن سبب إطالة المناقشات على رغم الوعود بإنهائها قبل جلستين او ثلاث؟ قال ما حرفيّته: «مع الأسف، الأمور تأخذ نقاشاً ووقتاً، لكنّ النقاش مفيد ومسؤول. فنحن أمام موازنة إصلاحية، وبالتالي هناك كثير من النقاش حول معظم البنود لكي نصل إلى الاتفاق وتقديم الصحيح منها للمواطن».
وفي نهاية الجلسة الحادية عشرة التي عقدت في 14 أيار قال الجرّاح:
«كان من المفترض ان تكون جلسة اليوم الاخيرة…»، لكنّ عدداً من الوزراء (نائب رئيس الحكومة غسان حاصباني والوزراء جبران باسيل وفادي جريصاتي ومحمد شقير إضافة الى آخرين) قدّموا اقتراحات خطية تناولت مواضيع لها علاقة بالنمو والاصلاحات الاقتصادية على أساس «ان لا يجري درسها مع الموازنة». وعلى رغم من إشارته الى عدم علاقتها بالموازنة، فهي التي قادت النقاش مجدداً حول كثير من العناوين التي كان يعتقد البعض انها عبرت وانتهى النقاش فيها.
وعلى عكس ما كان متوقعاً، فقد غاصَت الجلسة الـ13 التي عقدت في 17 أيار بما سمّي «ورقة» الوزير جبران باسيل، بعد ان طوي النقاش في موضوع التدبير «الرقم 3» الخاص بالجيش والقوى الأمنية، وتَرك أمر البَت به الى المجلس الأعلى للدفاع والقيادات العسكرية والأمنية للتنسيق في ما بينها. كذلك أرجىء البحث في مضمون القرص المدمج الذي وزّعه وزير المال علي حسن خليل، والذي تضمّن المواد القانونية بعد تعديلها، على أمل ان تحصر به المناقشات وتطوى الجلسات.
ومع الجلسة الـ14 كانت المواجهات الوزارية قد بدأت تأخذ مداها، فعقدت ليل الأحد 19 ايار وحتى ساعات الفجر الأولى، لكن ما جرى البَت به ليلاً فَضحته الجلسة الـ15 التي عقدت نهاراً في اليوم التالي، وعُرفت بـ»جلسة الألف ليرة على النرجيلة والرسوم على الزجاج العازل ورخَص السلاح» بناء على اقتراح وزير الإقتصاد منصور بطيش، وهو ما دفع وزير المال الى القول علناً: «كان من المفترض أن ننتهي اليوم، ولا مبرر لأن نبقى الى الغد، ولا ضرورة حتى أن نبقى 5 ساعات»، معتبراً انّ «الإطالة شبه متعمّدة».
ومن دون الدخول في تفاصيل الجلسات اللاحقة وصولاً الى الجلسة الـ19 التي عُقدت يوم الجمعة الماضي، والتي اتصفت بمجملها بـ«سوق عكاظ» نظراً لما شهدته من مظاهر «الجدل البيزنطي»، فقد تحولت الجلسات اللاحقة الى «حوار طرشان». وهي التي دفعت الحريري الى الإقرار في خطابه الرمضاني غروب السبت الماضي غداة رفع الجلسات في السراي والانتقال بها الى الى قصر بعبدا «أنا أقول لكم بكل صراحة وصدق، نعم، في بعض الأماكن كان هناك هدر للوقت».
وعليه، لماذا قبل الحريري بالأمر الواقع؟ ولماذا أرجأ قراره بوقف مسلسل الجلسات ورفعها متأخّراً الى بعبدا؟
قبل البحث عن الجواب، كان الحريري قد أجاب بنفسه و«بَق البحصة» في خطاب الافطار عينه. فقال ما حرفيّته: «إنّ أفرقاء سياسيين عدة اجتمعوا لإعداد هذه الموازنة، ولكل منهم أفكاره الاقتصادية. وكل منهم يريد أن يخرج على أنه هو الرابح، وأنه أضاف أكثر من الآخر على الموازنة…». ولذلك أخذت وقتاً وكنتُ صبوراً جداً جداً جداً». وجاء هذا «الاعتراف الفصيح» للحريري ليطرح سؤالا آخر: هل ما قاله كاف للتعبير عمّا يجري داخل الحكومة؟
بالتأكيد، لقد ألقى الحريري الضوء على جوانب ممّا جرى، ولكنه غير كاف. فقد كان واضحاً انّ هناك مشروعين اقتصاديين يتنازعان على «ساحة الموازنة». وقاد النقاش فيهما الى مزيد من الجدل الذي يقود الى المَلل بما رافقهما من «الديماغوجية» التي تعوق الوصول الى تفاهمات. فالفريق القريب من رئيس الحكومة يدرك، ومعه أطراف أخرى، انّ هناك سعياً الى خوض «بروباغاندا» تهدف الى توريط الحكومة في مواجهات متعددة الجوانب من أهل البيت وخارجه. مع العسكريين والمدنيين المتقاعدين ومع من هم في الخدمة الفعلية، فلا إجماع على تحميل الطبقتين الوسطى والفقيرة تَبعات تأمين موارد الموازنة وعدم ارتكاب الخطأ الذي ارتكب العام الماضي في حجم تقديرها.
والى هذه المخاوف ثبت انّ هناك سعياً الى المَس بسمعة رئيس الحكومة ووزير المال وأطراف سياسية عندما يواكب أصحاب الحديث عن «الملاحظات الفذّة» القول «انّ أصحابها يقودون مواجهة مع مُنظّمي الدين العام والفساد». وصولاً الى السؤال الذي طرح أكثر من مرة: من يرأس الحكومة ويدير الجلسات ويحدد جدول أعمالها؟ ومن هو وزير المال؟ كلها اسئلة ألقت الضوء على مواجهة خفية في الكواليس منعت رئيس الحكومة من وقف الجدل قبل جلسات عدة ورفع ما نشأ الخلاف من حوله الى جلسة بعبدا. عَدا عن بروز نية لدى الحريري بعدم خوض اي مواجهة مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي ظهر أنه يدعم مطالب باسيل ويحمّله صفة «الممثل الشخصي» له على طاولة الحكومة، وهو أمر أدى الى استسلام بعض الوزراء الى الدرجة التي أخفوا فيها امتعاضهم ممّا يجري على طاولة الحكومة.
والى هذه المعطيات ثمة من يخشى انّ بعضاً من أعضاء الحكومة لا يريد تنفيذ تعهدات «سيدر 1»، فالدعوة الى «المقاومة الاقتصادية» تُخفي ميل البعض الى تجربة «هانوي» بدلاً من تجربة «هونغ كونغ»، وهو أمر خطير لا يريد البعض أن يراه أمراً واقعاً، ولكن ماذا لو قادت بعض التصرفات الى هذا المنحى؟