الكلام عن موالاة ومعارضة وحكومة أكثرية مقابل أقلّية معارضة يُفترض أن يرتكز على واقع سياسي إما يفرز الحياة السياسية بين موالٍ ومعارضٍ لعهد محدّد، أو يكون نتيجة صراع بين مشروعين الرابح بينهما انتخابياً يحكم والخاسر يعارض.
لا يستقيم الكلام اليوم عن حكومة أكثرية، لأنّ أيَّ حكومة من هذا النوع تفترض وجود أقلية أفرزتها الانتخابات النيابية، فيما الانتخابات الأخيرة لم تجرِ بين مشروعين وفريقين وجبهتين، بل اختلط في هذه الانتخابات الحابل بالنابل، وقد تكون «القوات اللبنانية» و»حزب الله» وحركة «أمل» القوى الحزبية الوحيدة التي أبرمت تحالفاتها بشكل منسجم مع خطابها وتموضعها السياسيَّين، فيما تحالفات «التيار الوطني الحر» جاءت من كل حدب وصوب ونسفت كل فكرة او مبدأ الاصطفاف على قواعد سياسية واضحة المعالم.
فكيف يمكن مثلاً أو على أيّ أساس يتمّ تصنيف الأكثرية اليوم؟ فلا أكثرية ولا أقلية إلّا على قواعد وطنية وسياسية. ففي زمن انقسام ٨ و١٤ آذار كان يمكن الحديث عن أكثرية وأقلية على قاعدة أنّ فوز ١٤ آذار وخسارة ٨ آذار او العكس طبعاً يدفع أحد الفريقين إلى المعارضة، ولكن هذا الأمر لم يتحقق لسببين: السبب الأول تمسّك «حزب الله» بأن يكون في السلطة ليضمن، وفق رأيه طبعاً، عدمَ اتّخاذ أيِّ قرارات ضده، والدليل الأبرز أنّ السيد حسن نصرالله الذي كان متأكداً من نتائج انتخابات العام ٢٠٠٩ أطلق تعهّداً مفاده انّ الخاسر ينتقل الى المعارضة، لأنّ في حساباته حينذاك أنّ ١٤ آذار ستخسر الأكثرية، وبالتالي يكون أخرجها من السلطة من باب الانتخابات النيابية، الأمر الذي لم يتحقّق بفعل احتفاظ 14 آذار بالأكثرية وتراجع الحزب عن تعهّده بخروج الخاسر من السلطة، ولكن ما لم يستطع تحقيقه ديموقراطياً عاد وحقّقه عن طريق استقالة وزراء 8 آذار للإطاحة بحكومة الرئيس سعد الحريري وإخراج 14 آذار من السلطة في محاولة للعودة بالبلاد إلى ما قبل العام 2005.
والسبب الثاني يتعلّق بوجود عطب أساسي في تكوين 8 و14 آذار وهو غياب التمثيل السنّي الفعلي عن 8 آذار، وغياب التمثيل الشيعي الفعلي عن 14 آذار، الأمر الذي سيعد مع حكومة 8 أو 14 آذارية ضرباً للبعد الميثاقي.
ولا يمكن، بالمناسبة، التقليل من أهمية هذا العامل في النظام اللبناني، كون الديموقراطية في لبنان مركبة بين بعدها المدني، وبين تجسيدها للتمثيلي الطائفي، وبالتالي أيّ جبهة سياسية يجب أن تعكس صورة البلد، بمعنى أن تكون مكوّنةً من قوى سياسية ممثلة فعلاً لبيئاتها المسيحية والإسلامية، فيما خلاف ذلك يُعتبر خروجاً وضرباً للميثاقية.
وأما المحطة الثانية التي كان يمكن الذهاب فيها إلى حكومة أكثرية أو فرز البلد بين قوى موالية وأخرى معارضة فكانت مع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، حيث إنّ مَن انتخب الرئيس عون يكون في الموالاة، ومَن عارض انتخابه يكون في المعارضة، وبالتالي الفرز في هذه الحالة يُعتبر منطقياً، خصوصاً أنّ الانقسام بين وجهتي النظر كان حاداً.
وعلى رغم الانقسام الذي كان قائماً بين مَن مع انتخاب عون ومَن ضده لم يُصَر إلى تشكيل حكومة على هذا الأساس، بل أُقرّ الرأي على تشكيل حكومة وحدة وطنية، فيما كان بالإمكان بسهولة التأسيس مع العهد الجديد لمنطق الموالاة تحكم والمعارضة تعارض.
والكلام هنا هو عن معارضة حقيقية، بمعنى ألّا تتحوّل إلى المعارضة بمجرد عدم توزيرها، فتكون حكماً في المعارضة، إنما أن تكون نتيجة فرز حقيقي بين فريق سياسي لا يرى نفسَه مع فريق آخر، وبالتالي يخوض الانتخابات على أساس الفوز بالأكثرية من أجل استلام السلطة.
وكان يمكن مثلاً أن تتشكّل جبهةٌ سياسية عشية الانتخابات النيابية وتعلن عن خوضها الانتخابات في مواجهة أركان التسوية القائمة، ولكنّ هذا الأمر لم يتم، وبالتالي ما هو المعيار الذي سيتمّ الارتكازُ عليه لتصنيف مَن هو موالٍ ومَن هو معارض؟
ففي زمن 8 و14 آذار كان يمكن الكلام عن حكومة أكثرية وأقلية، وفي لحظة انتخاب الرئيس عون كان يمكن الكلام عن أكثرية وأقلية، وفي خضم الانتخابات كان يمكن تشكيل الحياة السياسية بين موالاة ومعارضة، الأمر الذي لم يتحقق، ولذلك لا يمكن الكلام عن حكومة أكثرية خارج قواعد الصراع التي تفرز الحياة السياسية بين موالاة ومعارضة.
ومعلوم أنّ كل حكومات ما بعد اتفاق الطائف كانت حكومات وحدة وطنية مع فارق غياب الوحدة الحقيقية في زمن الوصاية السورية، وغيابها في الحكومة التي تلت إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى بخلوّها من فريق 14 آذار واستطراداً التكوين السنّي التمثيلي، وباستثناء ذلك كانت الحكوماتُ نسخةً مصغّرة عن مجلس النواب، الأمر الذي يفسِّر ويبرّر وجودَ موالاة ومعارضة على طاولة مجلس الوزراء على القطعة، وهذا أمر طبيعي في ظلّ قوى متنوّعة لكل منها رؤيتها ومواقفها.
ويمكن القول إنّ التجربة الحالية نتيجة انكفاء الانقسام العمودي وتراجعه سمحت بتقاطعات داخل الحكومة عابرة للانقسام التقليدي في الملفات الاقتصادية والحياتية، فكانت مفيدة لناحية تصويبها الممارسة في الشأن العام، إذ في غياب منطوق المعارضة والموالاة الحقيقية من الخطورة بمكان أن تكون التركيبة الحكومية من لون واحد تجنّباً لسياسات بعيدة عن المعايير المطلوبة، وبالتالي المطلوب أن تتوافر في أيِّ تركيبة التوازنات التي تضمن البعدَين السيادي والإصلاحي-الرقابي، إلّا إذا كان المقصود استبعاد قوى محدَّدة لأهداف معلومة، الأمر الذي لا يمكن تحقيقُه لجملة اعتبارات تمثيلية وسياسية.
وبانتظار أن تفرز الحياة السياسية القواعد المؤسِسة لتكتّلات موالية ومعارضة على أساس برامج سياسية، يصعب الكلام عن حكومة أكثرية في ظلّ اتّجاهٍ غالبٍ نحو حكومة وحدة وطنية.