هل تنشب الحرب المقبلة بين إسرائيل وحزب الله؟ سؤال يطرح دورياً منذ انتهت الحرب الماضية عام 2006، مع تجاذب في الرد على السؤال، بحسب الموقع والموقف السياسيين.
ما الذي يدفع الى الحرب، وما الذي يحول دونها؟
القدر المتيقن، أن طرح السؤال وتداوله من الجانبين يأتيان في سياق الغايات الردعية على أقل تقدير. تخويف كل طرف للطرف الآخر من الحرب وأهوالها، وتحديداً من قبل إسرائيل، هو محاولة لتحقيق الردع أو زيادة منسوبه، مع إقرار الجانبين بأن ميزان القدرة العسكرية يتيح لهما الإيذاء المتبادل، بصورة هائلة وغير مسبوقة.
بعد انتهاء حرب 2006، دخل الطرفان في مرحلة اللاحرب، وخاضا ــــ ولا يزالان ــــ حرباً من نوع آخر، حول تعاظم قوة حزب الله عسكرياً. قبل أشهر، كادت الواقعة أن تقع، على هذه الخلفية تحديداً، لولا تراجع إسرائيل عن مخططاتها في اللحظة الاخيرة.
حاولت تل أبيب نقل المعركة من هوامش الساحة اللبنانية الى داخلها، أي من طرق إمداد السلاح الى السلاح نفسه، وهو ما لم يكن ليمر من دون ردّ يتناسب مع حجم الاعتداء. وكان الردّ سيستدرج رداً، نتيجة الخسائر المرتقبة في الجانب الاسرائيلي، ومن ثم ردوداً متدحرجة. لكن إدراك تل أبيب أنها أخطأت الحساب أدى، في نهاية المطاف، الى امتناعها عن المغامرة في لبنان.
الامتناع الاسرائيلي، في اللحظة الاخيرة، جنّب الطرفين خوض أيام طويلة من القتال. لكنه امتناع مؤقت، ومرتبط بشكل رئيسي بالتقديرات الاسرائيلية حول مستوى ردّ حزب الله ومنسوبه. وعودة إسرائيل الى الخطأ في الحسابات، لاحقاً، قد يفضي من جديد الى مخاطرة واستنساخ واقع ملامسة المواجهة الموسعة بين الجانبين، كما حدث في الاشهر الماضية.
في أعقاب حرب 2006، تغيّرت استراتيجية الجيش الاسرائيلي إزاء الساحة اللبنانية، وتيقن أنه غير قادر على “شطب” حزب الله. أضف الى ذلك، في السنوات التي أعقبت الحرب، التعاظم الهائل لقدرات حزب الله العسكرية، كمّاً ونوعاً، حتى بات بإمكانه أن يكون نداً للجيش الاسرائيلي. هذا التطور يحضر في شكل ثقيل جداً على طاولة القرار في تل أبيب، وهو عامل رئيسي ــــ وربما أكثر من رئيسي ــــ في منع خطط طموحة، تهدف الى “شطب” الحزب عسكرياً.
بالطبع، إسرائيل لم تستسلم في مرحلة اللاحرب، وحاولت الحؤول دون تعاظم قوة الحزب. ودارت ــــ ولا تزال ــــ حرب إسرائيلية ضد منابع القدرة وممراتها الى لبنان، بعدما باتت تل أبيب عاجزة، ربطاً بالتداعيات، عن استهداف السلاح نفسه في الساحة اللبنانية. هذه الحرب تسميها إسرائيل “معركة ما بين الحروب”، وتهدف الى منع نشوب الحرب المقبلة أو تأجيلها قدر الامكان، ما دامت غير قادرة على الحسم فيها. وأحد أهم العوامل لتحقيق هذه الاستراتيجية، هو منع تعاظم حزب الله عسكرياً.
اضطرار تل أبيب إلى المقارنة بين جيشها وحزب الله لتهدئة جمهورها نصر كبير جداً للمقاومة
النتيجة، بعد عشر سنوات على الحرب، فشل إسرائيل في تحقيق أهداف هذه “المعركة ما بين الحروب”، رغم ما أقدمت عليه من ضربات بما تيسر لها لقوافل الإمداد في الساحة السورية. وأصبحت قدرة حزب الله، التي قدّرتها تل أبيب بعد الحرب الماضية بـ7000 صاروخ، تزيد على 130 ألفاً، والعداد الاستخباري الاسرائيلي لا يزال يعمل.
عودة الى السؤال الابتدائي: هل تنشب الحرب؟ الرد يوجب استعراض الاسباب الدافعة لها، والنتيجة المؤملة وإمكاناتها الفعلية. من جهة الاسباب، لدى إسرائيل “كل الاسباب” الممكنة، ويكفي حجم قدرة حزب الله العسكرية والتهديد الذي تشكله للأمن الاسرائيلي كي تقدم بلا مقدمات على شنّ الحرب. هذه القدرة وحجمها ومفعولها التهديدي، تعادل في ثقلها مئات عمليات الاسر على شاكلة عملية عام 2006. والحرب إذا شُنّت بناءً على هذا السبب، ستكون “حرباً غائية”، أي إرادة إسرائيلية مسبقة ومخطط لها لتحقيق وضع مستقبلي أفضل من دون تهديد عسكري من جانب حزب الله، وفي الموازاة فرض إرادتها السياسية على لبنان، كما في الماضي… إلا أن النتيجة المتعذرة، كما تقدر تل أبيب، إضافة الى قدرة حزب الله على الإيذاء، تحولان دون الاستجابة لهذا “السبب الغائي”.
السبب الثاني، غير الغائي، يأتي رداً على حدث ما، ويجر تباعاً الى ردود، ويتدحرج الى مواجهة واسعة، وهو ما يسمى السبب المستند الى “الأخطاء غير المحسوبة”. لكن هل هذا السبب حقيقي، وهل يتعارض مع “السبب الغائي”؟ سؤال طالما كان محلاً للتجاذب على طاولات التقدير لدى أجهزة الاستخبارات، من دون التوصل الى نتيجة نهائية حوله. يحلو للبعض، كل حسب غاياته وموقعه السياسي، أن يشير الى عملية أسر جنود إسرائيليين على أنها سبّبت حرب عام 2006. ولكن، لو قدّرت إسرائيل مسبقاً أنها ستفشل في الحرب، هل كانت لتقدم عليها؟ الجواب هو لا كبيرة جداً. كانت لترد على عملية الاسر، بمستوى متناسب وضمن ضابطة بما لا يتسبب في مواجهة عسكرية كاملة.
كانت إسرائيل، في حينه، وبدفع من الولايات المتحدة، ترى وتؤمن أنها قادرة على “توفير البضاعة” و”شطب” حزب الله عسكرياً. بناءً على هذا التقدير، فإن عملية الاسر ليست إلا ذريعة للحرب، لا سبباً لها. والذرائع كانت لتأتي وهي كثيرة، بل لا ضرورة للذرائع. وما جرى تداوله إسرائيلياً وأميركياً، خلال الحرب وبعدها حول النتائج المؤملة لها، بما يتصل بإعادة تشكيل صورة لبنان والمنطقة، دليل على أن حرب عام 2006 كانت “غائية” كاملة، وقد يكون توقيتها جاء مبكراً.
في تدريس العلوم الاستخبارية يجري تداول مثال تبسيطي لفهم هذا المعادلة، وهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأسباب حرب عام 2006، وربما أيضاً بأسباب الحرب المقبلة إن نشبت فعلاً: كلما سخنت الماء، غلت وتبخرت. تبخّر الماء سبب تلقائي وطبيعي لتسخينه وغليانه. أما عملية الاسر عام 2006، فليست ولا يمكن أن تكون سبباً تلقائياً وطبيعياً للحرب، إذ كان بالامكان الرد على العملية، بتناسب معها، ودون الحرب. المثال الآخر التبسيطي الأكثر دلالة هو الآتي: عندما تسمع طرقاً على الباب، فإنك تتجه لفتحه كي تعرف هوية الطارق. طرق الباب ليس سبباً لفتحه، بل معرفة هوية الطارق هو السبب، وببساطة كان بإمكانك أن تتجاهل الطرق، وعملية الأسر هي طرق على الباب لا أكثر.
سابقاً والآن ولاحقاً، لدى إسرائيل كل الدافع والحافزية لشن حرب ضد حزب الله، ولا جدال في ذلك، إلا لمن أراد المجادلة للمجادلة. إن وصلت إسرائيل الى اقتناع بأنها قادرة فعلاً على إنهاء حزب الله وتهديده العسكري من خلال شن حرب ابتدائية، فستسارع الى تلقف أي ذريعة كانت، بل وربما بلا ذريعة، لإعادة محاولة “شطب” حزب الله. عدم القدرة على تحقيق هذه النتيجة، إضافة الى تقدير الاضرار الهائلة التي ستلحق بها نتيجة التعاظم النوعي لقدرات الحزب العسكرية، سببان يحولان دون الحرب، الابتدائية في أقل تقدير. وللمفارقة، فإن السلاح الذي يحفّز إسرائيل لشنّ حرب، هو نفسه الذي يحول دونها.
في الذكرى العاشرة للحرب، تبرز جهود القادة الاسرائيليين، السياسيين والعسكريين، لإفهام جمهورهم بأن الحرب المقبلة ستكون مغايرة للحرب الماضية. وهذا إقرار جديد بفشل الجيش الاسرائيلي عام 2006. يجهد القادة الاسرائيليون، أيضاً، لإفهام جمهورهم بأن لديهم جيشاً أقوى وأكثر تسليحاً وعتاداً من حزب الله. اضطرار تل أبيب الرسمية إلى المقارنة بين جيشها وحزب الله، لتهدئة جمهورها، مع لحاظ قدراتها العسكرية الهائلة، هو أيضاً نصر كبير جداً للمقاومة.