تعثّر المفاوضات بين الحكومة اللبنانية وخاطفي جنودها في جرود بلدة عرسال يعود إلى اختلاف لغتي الطرفين، فالحكومة ملزمة بقواعد قانونية تمنع إطلاق محكومين قضائياً، وهذا ما ترفضه التنظيمات «القاعدية» الخاطفة كونها عابرة لحدود الدول وقوانينها. ربما لهذا السبب تدخل على خط المفاوضات دول وشخصيات وهيئات دينية وسياسية لا تمثل تماماً الحكومة اللبنانية والتزاماتها، وقد نجح هؤلاء حيناً وفشلوا أحياناً في التفاوض، ما أدى إلى إطلاق جنود وقتل آخرين.
المأزق مع «النصرة» و «داعش» ليس أول مآزق لبنان خلال عقود أربعة، فقد شهد أمثاله في حروبه أثناء الوجود السياسي والعسكري الفلسطيني ثم السوري على أرضه، وكان الطرفان ينظران إلى لبنان كبلد هش تحكمه سلطة ضعيفة، فيما يعتبران سلطتي دمشق وبغداد قويتين بفضل القبضة الحديد العسكرية والاستخباراتية.
مع الربيع العربي انكشف زيف القبضة الحديد إذ انهار الحكم السوري الذي طالما بعث الارتجاف في أوصال السوريين واللبنانيين، ولم يكن انهياره لمصلحة قوى وطنية بل لسيطرة قوى ما قبل دولتية تتذرّع بالإسلام غطاء لعصابات مسلحة، تقهر الناس وتطردهم من ديارهم أو ترغمهم على الانصياع لتعليماتها المشددة بحيث يتحولون فئران تجارب اجتماعية.
وكان الحكم العراقي الصلب انهار مع الاجتياح الأميركي بحيث عاد المواطنون إلى طوائفهم وقبائلهم، مع فساد ليس له مثيل وإهمال متعمد لمصالح الشعب يحيله إلى مجموعة عبيد معبأين بالكراهية.
سلطتا سورية والعراق القوميتان المتشددتان في علمانيتهما ظاهراً، كانتا في أحيان كثيرة تخفيان سياسات طائفية، بحكم الأمر الواقع. أما سلطة لبنان الضعيفة فتبين أنها تحتفظ بقوة ومرونة اكتسبتهما من الاعتراف بوجود طوائف تحكم علاقاتها مواثيق تعادل الدستور، والطائفية هي الموقت الدائم، يتنصل اللبنانيون منها ويتمسكون بها في آن واحد، كأنهم يخجلون من عجز وطنهم عن الوصول إلى سوية الأوطان الأوروبية التي بها يتمثلون.
جنود لبنانيون مخطوفون على أرض لبنانية يشغلها مسلحون متشددون يُفترض أنهم يحاربون النظام السوري، لكن الوطأة تقع على لبنان دولة ومجتمعاً في مرحلة العجز عن تنظيم انتخابات برلمانية وانتخاب رئيس للجمهورية، وقسوة الاستقطاب الإقليمي على شعب لبنان المنقسم حول مصير سورية، وهو الذي كانت نخبته السياسية تخضع لوصاية النظام السوري يراها تخضع الآن لوصايتي المعارضة والنظام.
لكن وجود لبنان والحد الأدنى من استقرار مؤسساته يرجعان إلى حيوية غالبية شعبه المتحررة من وطأة زعامات طائفية تزداد بؤساً وضيق أفق، وإلى كونه ضرورة إقليمية ودولية، خصوصاً بعد انهيار المجتمعين السوري والعراقي والخلاف المتعدد الوجوه حول مقومات الحكم المقبل في دمشق وبغداد.
وهنا تبدو قاصرة الكتابات التي تعتبر النازحين السوريين في لبنان قنبلة موقوتة، فلهؤلاء مصلحة ربما أكثر من اللبنانيين في الاستقرار، وهم في الإجمال يشكلون شريحة مليونية هاربة من النظام والمعارضة معاً إلى بلد شقيق تألفه في الأحوال المتقلبة، وهم يدركون جيداً أنهم إذا فقدوا لبنان لا يبقى لهم سوى البحر، فلا النظام ولا المعارضة في سورية يأبهان بالنازحين، وإلاّ ما انحدرت الأمور إلى هذا المستوى الجرمي المسمّى نضالاً.