من حسن الحظ انّه لا تزال في المنطقة العربية دول يُحترم فيها الدستور وتجري فيها انتخابات في المهل المحددة. بين هذه الدول المملكة المغربية حيث سيتوجّه المواطنون الى صناديق الاقتراع الجمعة المقبل. انّه دليل على نجاح المملكة في وضع نفسها على خريطة الدول الآمنة في منطقة شمال افريقيا المضطربة والعالم من جهة ومتابعة السير في الخط الإصلاحي الذي وضع اسسه الملك محمد السادس من جهة أخرى.
ثمة ملاحظات يمكن ان تبدو مفيدة على هامش الانتخابات التشريعية التي يتنافس فيها نحو ثلاثين حزباً على مقاعد مجلس النوّاب. نعم، هناك منافسة بين ثلاثين حزباً بعيداً عن السلاح ومحاولات فرض امر واقع.
الجميع تحت سقف القانون، لا وجود لاحزاب مسلّحة رهنت نفسها للخارج تمنع الانتخابات وتحاول فرض رأيها بالقوّة كما الحال في لبنان. لذلك المغرب يتقدّم ولبنان يتراجع بعدما كان دولة رائدة في المنطقة على صعيد احترام الدستور والتزام الانتخابات في مواعيدها.
الملاحظة الاولى التي يمكن ابداؤها على هامش الانتخابات المغربية انّ كلّ كلام عن تدخّل القصر الملكي لا علاقة له بالواقع. هناك أحزاب مقصّرة، على كلّ صعيد، تطلق مثل هذا النوع من الاشاعات وذلك بهدف التغطية على فشلها بشكل مسبق. تفعل ذلك في بلد قال فيه العاهل المغربي صراحة في خطاب القاه في أواخر تمّوز الماضي في مناسبة «عيد العرش» انه على مسافة واحدة من الجميع، من جميع الأحزاب ومن جميع المغاربة، وان «المغرب حزبي الوحيد». هناك من يريد ان يفهم معنى هذا الكلام وهناك من يريد الهرب من الواقع. هذا كلّ ما في الامر.
الملاحظة الأخرى، التي يبدو مفيداً التوقّف عندها، أنّ الدستور الجديد الذي اقرّه المواطنون في استفتاء شعبي في العام 2011 ، نجح الى حد كبير في رفع مستوى الخطاب السياسي في الغرب. فلدى قراءة البرامج التي قدّمتها مختلف الأحزاب للناخبين، نجد ان هناك محاولة جدّية لاقناع المواطن المغربي بفائدة دعم هذا الحزب او ذاك.
بكلام أوضح، هناك سعي الى اعتماد لغة الأرقام بديلاً من الشعارات الفارغة التي تستخدم غالباً في تغطية وعود وهمية لم تعد تنطلي في أي شكل على المواطن العادي. كانت الإصلاحات التي تضمّنها دستور 2011 حافزاً كي يرتفع مستوى الأداء الحزبي، نسبيا طبعاً. كلّ ما يمكن قوله الآن ان الأحزاب المغربية، في معظمها طبعاً، عملت من اجل ان تكون في مستوى التطورات السياسية التي يشهدها البلد. فالجميع يتحدّث عن نسبة النمو للاقتصاد وكيف تم تحقيق نسبة معقولة بعد تراجع طرأ على الاقتصاد المغربي هذه السنة وفي 2015 بسبب موجة الجفاف وعوامل أخرى من دون ان يؤدي ذلك الى أي تباطؤ يذكر في تنفيذ المشاريع الكبيرة. انّها المشاريع المرتبطة بالبنية التحتية واعداد المغرب للعب دور اكبر في مجال التكنولوجيا الحديثة والطاقة الشمسية والصناعات التحويلية وذلك في ضوء التوجه المدروس للمملكة الى الفضائين الافريقي والاوروبي.
ثمّة ملاحظة مهمّة أيضاً لا يمكن تجاهلها. تتمثل هذه الملاحظة في النقاش الذي محوره التوجه الديني في مجتمع مؤمن مثل المجتمع المغربي. هناك دعوة واضحة من كلّ الأحزاب الى الابتعاد عن التطرّف واعتماد الوسطية. حتّى حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي اليه رئيس الوزراء الحالي عبد الاله ابن كيران بات يصرّ على انّه ليس جزءاً من التنظيم العالمي للاخوان المسلمين. يصر قادة هذا الحزب على خطاب ديني معتدل وذلك كي يضمنوا بقاء الحزب في المرتبة الاولى بعد اعلان النتائج، مع ما يعنيه ذلك من عودة ابن كيران الى موقع رئيس الوزراء.
اعتمد «العدالة والتنمية» خطاباً سياسياً معتدلاً بعدما وجد انّ البرنامج الذي طرحه «حزب الاصالة والمعاصرة» الذي يتزعمه الياس العمّاري حقّق اختراقات في أماكن عدة بفضل خطاب سياسي يعتمد اوّل ما يعتمد لغة الأرقام وضرورة عدم التستّر بالدين. ففي مدينة مثل فاس استطاع «العدالة والتنمية» تحقيق انتصار كبير في الانتخابات البلدية العام الماضي. ولكن، في هذه السنة، باتت «الاصالة والمعاصرة» عاملاً لا يمكن تجاهله في هذه المدينة التي كانت في الماضي معقل «حزب الاستقلال» العريق… هذا الحزب الذي ليس معروفاً هل ستعيد اليه الانتخابات المقبلة الاعتبار على الصعيد الوطني وليس في فاس فقط.
تكشف الحملة الانتخابية في المغرب وجود كلّ التيارات السياسية في بلد واحد، بما في ذلك التيارات اليسارية التي تجاوزها الزمن. كلّ حزب يطرح برنامجه الانتخابي بعيداً عن السلاح الذي يستخدم في لبنان لفرض امر واقع وتغيير النظام. لم يكن ذلك ممكناً من دون الاستقرار السياسي والأمني الذي امّنه محمّد السادس الذي اخذ على عاتقه القيام بتلك النقلة النوعية المتمثلة في دستور 2011 الذي يضمن مزيداً من المشاركة الشعبية في الحياة السياسية والاقتصادية، إضافة بالطبع الى ضمان لحريات المواطنين وتعزيز لحقوق المرأة.
ايّاً تكن نتيجة الانتخابات المغربية، ستكون هناك حكومة ائتلافية. لا يمكن التكهّن بشكل هذه الحكومة، ذلك ان الامر يعود الى مفاوضات شاقة بين الأحزاب التي ستكون قادرة على الفوز بمقاعد نيابة. الشيء الأكيد ان ليس في استطاعة أي حزب احراز أكثرية نيابية تسمح له بتشكيل الحكومة من دون التحالف مع آخرين. كذلك، اكثر من اكيد ان رئيس الحزب الذي سيحصل على اكبر عدد من النواب سيكون رئيس الوزراء المقبل. هل يعود ابن كيران رئيساً للوزراء ام لا؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوّة من الآن، علماً ان مؤشرات كثيرة توحي بذلك.
ما قد يكون اهمّ من ذلك كلّه انّ المجلس النيابي الجديد، بغض النظر عن الفائز في الانتخابات سيكون ظاهرة صحّية نظراً الى انّه ستكون فيه معارضة وموالاة تحت مبدأ المحاسبة المتبادلة. فاذا اخذنا في الاعتبار البرنامج السياسي لـ»الاصالة والمعاصرة»، فانّ هذا الحزب سيمارس دوراً جدّياً في مناقشة كلّ قرار حكومي… هذا اذا لم تحدث مفاجأة كبيرة تنتهي بوصول العماري الى موقع رئيس الوزراء.
كلّ ما يمكن قوله في نهاية المطاف انّ الإصلاحات التي باشرها محمّد السادس تؤسس لحياة حزبية وبرلمانية متطورة. لا يزال المغرب، على الرغم من التاريخ القديم لعدد لا بأس به من احزابه في بداية طريق طويل تجعل من الممكن التساؤل في ضوء التجربة الانتخابية الثانية منذ إقرار دستور 2011، هل ارتقت الأحزاب المغربية الى مستوى الإصلاحات التي شهدها البلد؟
يصحّ طرح هذا السؤال لسبب في غاية البساطة عائد أساساً الى انّ العاهل المغربي يثير دائماً مسائل في غاية الاهمّية. على رأس هذه المسائل دور الإسلام في المغرب وفي محيطه الافريقي والحرب على الإرهاب والتطرّف ورفع مستوى التعليم من دون الخوف من عقدة اللغات الأجنبية. يحصل ذلك كلّه في بلد وجد مكانه في محيطه والعالم، بلد لا مشكلة لديه في التعاطي من الند للند لا مع الولايات المتحدة وسياساتها المتذبذبة، عندما يتعلق الامر بحقوقه الوطنية مثل قضية الصحراء المغربية، ولا مع أوروبا التي تمرّ في حال من الضياع على غير صعيد وفي اكثر من مكان..