يَحار المراقبون المتابعون لملفّ العسكريين المخطوفين في البحث عن مظاهر الثقة بالنفس التي عبَّر عنها الخاطفون في تعاطيهم مع الجانب اللبناني. فعلى عكس كلّ التوقّعات التي بُنِيت على «الحصار المناخي»، يبدو الخاطفون مطمئنّين برفعِهم سقفَ مطالبِهم إلى حدود التحدّي على وقعِ سعيِهم إلى زرعِ الفتنة بين أهالي المخطوفين والحكومة. ما الذي قادَ إلى هذه القراءة؟
لا يُخفي مواكبو حركة الاتصالات بين خاطفي العسكريين المنتشرين في جرود عرسال والقلمون السورية وبين الجانب اللبناني، حجمَ الثقة التي يتمتّع بها الخاطفون، ما قادَهم إلى نوع من العنجهية في تعاطيهم مع الوسيط القطري والمفاوض اللبناني على السواء، وشجّعَهم على رفعِ مطالب يغلب عليها طابع التحدّي، وصولاً إلى ما يمكن اعتباره تعجيزياً على رغم معرفتهم بذلك.
فقد أثبَتت جولات المفاوضات السابقة التي قادها الوسيط القطري وقبله وسطاء محلّيون، أنّ الخاطفين رفعوا مطالبهم الى الحدود القصوى بعدما اطمَأنّوا إلى حجم التنسيق القائم بين «جبهة النصرة» و«داعش»، والذي وصلَ الى مرحلةٍ دمَجَ فيها التنظيمان بعضَ المطالب، وإن لم تقترب بعد إلى حدود الورقة الواحدة.
وقد تحقَّق ذلك بعد مرحلة من الفتور شكّلَت تمايُزاً ملحوظاً بين الطرفين. وقد سبَق للوسيط القطري أن اكتشف هذا التمايز بينهما، ففصَل بينهما في حركته، وقاد لفترةٍ مفاوضاته مع «داعش» قبل أن ينتقل إلى الاتّصال بـ«النصرة». وهو كان يعتقد صادقاً أنّ الخطوة الأصعب كانت في بدء الحوار مع «داعش» قبل أن يتفرّغ للطرف الآخر، فاكتشفَ العكس تماماً، ولم يعُد يُميّز بين الطرفين.
في البحث عن شكل «أوراق القوّة» لدى الطرفين، كان الجانب اللبناني يسعى الى تحديد ما يمتلك منها لاستثمارها. فرأى أنّ أبرزَها وأهمّها هو حصر المفاوضات بفريق لبناني متجانس وصغير.
فخلال التجارب التي قادَتها جهات دولية وعربية سابقة مع المجموعات التي أتقنَت لغة الخطف لقاءَ فدية ماليّة أو للإفراج عن مخطوفين من جنسيات مختلفة، ثبُتَ أنّ مَن امتلكَ فريقاً مماثلاً كان متمكّناً أكثر واستطاع إتمامَ المفاوضات في أفضل الظروف وأضمن النتائج. ولعلّ التجربتين التركية والإيرانية تشكّلان أفضلَ النماذج.
كان الجانب اللبناني يسعى أيضاً إلى استثمار الورقة الأمنية في المفاوضات، ففرَضت وحدات الجيش نوعاً من الحصار للفصل النهائي بين عرسال وجرودها اعتقاداً منه أنّ عوامل الطقس ستُعزّز الحصارَ على الخاطفين، ما قد يسهّل المفاوضات ويسرّعها، من دون أن ترضَخ وتُفرِج عن إرهابيّين خطّطوا وشاركوا وتورّطوا في تنفيذ كلّ أنواع الجرائم الإرهابية.
لكن، على المقلب الآخر كان الخاطفون، وبعدما قتلوا ثلاثة عسكريين، يراوغون. يُطلقون لائحةً من المطالب وراء أخرى تتناقض في شكلها ومضمونها، وهو ما زرَع مزيداً من الشكوك في جدّيتهم، اعتقاداً من الجانب اللبناني أنّ الخاطفين «سيصرخون أوّلاً، فـ«الجنرال ثلج» قادمٌ إلى المنطقة والأحوال المناخية تُنبئ بموسم بارد وقارس، ويمكن عندها التعاطي معهم من موقع القوّة.
لكنّ ما ظهر في الأيام القليلة الماضية، عكَسَ وجهاً آخر للخاطفين، فهم في بداية تشرين الثاني وعلى أبواب سَيلٍ من العواصف يرفعون من سقف مطالبهم ويُهدّدون ويتوعّدون، ويستغلّون أعصابَ أهالي المخطوفين. يديرون تحرّكاتهم، ويدفعونهم الى شتمِ المسؤولين ويشكّكون في ما تقوم به الحكومة بمجرّد وصول رسالة نصّية خَلوية لأحدهم.
لكنّ ما رفع من نسبة القلق، هو ما كشَفَته مصادر مَعنية تحدّثت عن لائحة غير رسمية للمبادلة حمَلها الوسيط القطري الى المسؤولين، بأسماء مجرمين وإرهابيين، محكومين وموقوفين بعدما اعترفوا بما ارتكبوه من جرائم لجَسّ نبض
اللبنانيين الذين أدركوا سَلفاً أنّ الخاطفين سيلجأون الى تأكيد هذه اللوائح لاحقاً، ورسمياً، في أجواء توحي بأنّهم يتعاطون بهذا الملف من موقع الأقوى.
ولذلك، كثرَت الأسئلة عن مصادر قوّتهم وخلفياتها، وما الذي جعلهم في هذا الموقع، في انتظار أن تحمل الأيام المقبلة أجوبةً واضحة لم تتوافر الى اليوم، أو أنّ أحداً لا يريد الإضاءةَ عليها.