Site icon IMLebanon

لماذا نجح التعاون المائي في غرب إفريقيا وفشل في الشرق الأوسط؟

عانت منطقة غرب أفريقيا عام 1972 من موجة جفاف حادة تسببت بارتفاع نسبة ملوحة المياه الى مستويات قياسية، فباتت الحياة شبه مستحيلة لسكان هذه المنطقة في ظلّ ندرة المياه الصالحة للشرب والري. معاناة دفعت ثلاث دول تتشارك نهر السينغال، وهي مالي وموريتانيا والسينغال الى التشمير عن السواعد والتكاتف للتقليل من المخاطر، فوضعت عقب تحرّرها من الإستعمار الفرنسي، إتفاقية لنهر السينغال عام 1972، لتعود وتنضمّ دولة المنبع غينيا في العام 2006 إلى هذه الإتفاقية. اليوم باتت «منظمة تنمية حوض نهر السينغال» (OMVS ) أشبه بفضاء مُوحّد جعل من أطول وأشهر الأنهار الأفريقية في أقصى غرب القارة أداة لتحقيق التنمية والمصالح المشتركة لشعوب المنطقة. فما الذي يعوق تركيا والعراق وسوريا والأردن ولبنان في الحذو حذوها؟

لا ينكر رئيس وزراء غينيا السابق والمفوض السامي لمنظمة تنمية حوض نهر السينغال كابين كومارا أنّ المعاناة والألم اللذين تسبّب بهما الجفاف في غرب أفريقيا دفع دول النهر إلى التعاون.

ويقول لـ«الجمهورية» التي التقته على هامش الجولة الميدانية لمجموعة السلام الأزرق إلى نهر السينغال بين 9 و14 آب:» لقد شهدت منطقة حوض السينغال دورات من الجفاف والفيضانات، فمياه أمطار أقل يعني زيادة نسبة الملوحة في الأنهار، وما زاد الطين بلّة دخول مياه الأطلسي إلى نهر السينغال، فلم يعد هناك إمكانية لزراعة الأراضي، ما دفعنا الى بناء السدود والعمل معاً لتقليص الفقر».

جولة ميدانية هي الثالثة لمجموعة السلام الأزرق التي تشمل خبراء تقنيين وصحافيين من تركيا ولبنان والعراق والأردن للإستماع إلى تجربة دور نهر السينغال في التعاون بعد زيارتين إلى نهر الراين في أيلول 2013، وأخرى إلى الميكونغ في كانون أول 2014، وهي استكمال لبرنامج مبادرة السلام الأزرق التي أطلقتها منظمة«Strategic Foresight Group» الهندية للأبحاث عام 2010، والتي تسعى الى تحويل المياه من مصدر للنزاع الى أداة للسلام وتشجيع دول الشرق الأوسط على التعاون لإدارة مواردها المائية المشتركة والإستلهام من تجارب الغير، وخلق مجلس تعاون مائي مستقبلاً، بدعم من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC) ووزارتي الخارجية السويسرية والسويدية.

في داكار، تعرّفت المجموعة إلى الإطار القانوني والمؤسساتي لعمل منظمة نهر السينغال الذي ينبع من هضبة (فوته جالو) في غينيا، ويمرّ عبر 4 دول أفريقية، وهي غينيا، مالي، السنغال، وموريتانيا، ثم يصب بالقرب من مدينة سانت لويس في المحيط الأطلسي. منظمة كان الهدف من إنشائها تحقيق الأمن الغذائي للدول وتحسين مستوى الظروف المعيشية للسكان، والمساهمة في التنمية الإقتصادية لها.

أمّا عرّابو ( OMVS) فهم الرؤساء الأوائل لغينيا الراحل أحمد سيكو توري، والموريتاني الراحل المختار ولد داده، والسنغالي ليوبولد سيدار سنغور، والمالي موديبو كيتا.

ويوضح كومارا أنّ الأباء المؤسسين وضعوا نصب أعينهم أنّ أي مشروع يجب أن يتوافق عليه جميع الأعضاء، أي دول المنبع والمصب على حد سواء، وأن لا يتناقض مع ميثاق مياه نهر السينغال الذي أُقرّ عام 2002. المنظمة تحيا من خلال خلايا تنسيقية، الوزراء يتغيّرون، لكنّ اللجان تبقى بما يضمن إستمرارية العمل.

القرارت تُتخذ على مستوى مؤتمر رؤساء الدول والحكومات ومجلس الوزراء في كل دولة والمفوضية السامية، وهناك ثلاث شركات تتولّى إدارة حوض النهر وهي شركة تسيير سد دياما SOGED وشركة تسيير كهرباء سد ماننتالي SOGEM وشركة تسيير الملاحة النهريةSOGENAV.

وتضع عضو اللجنة العليا لمبادرة السلام الأزرق الأمين العام السابق لوزارة المياه والري في الأردن المهندسة ميسون الزعبي الزيارة الميدانية إلى نهر السينغال في سياق إستكمال برنامج مبادرة السلام الأزرق.

وتقول الزعبي لـ«الجمهورية»: «بعد الإطلاع على تجربة نهر الراين في أوروبا ونهر الميكونغ في آسيا في الإدارة المشتركة للمياه، جئنا للتعرف على منظمة نهر السينغال التي بدأت بثلاث دول ومن ثم انضمّت إليها غينيا، وهي تجربة تعاون ناجحة من دون شك، والمميز أنّه داخل المنظمة توزّعت وتحدّدت الأدوار بطريقة جيدة، فمسؤولية الحكومات، هي المحافظة على موارد الدول الطبيعية وإدارتها بشكل مستدام، وخصخصة المصادر في الوقت عينه وفق الأولويات مع مراعاة مطالب القاعدة الشعبية من خلال الهيئة الممثلة للدول الأربع».

وتلفت الزعبي إلى أنّ «الحكومات لم تستولِ على كل شيء بل أشركت القطاع الخاص، فتخصيص المياه تم من خلال إقامة مشاريع مشتركة في الكلفة والإحتياجات. من ينقصه مياه يزوّد بمياه، ومن ينقصه كهرباء يزوّد بكهرباء.

بمعنى أنّه تحت لواء هذه الهيئة شركات متخصصة معنيّة بقضايا المياه والكهرباء والزراعة». فضلاً عن ذلك، هناك برنامج للمراقبة والتحسين المستمر لعمل المنظمة ووجود هيئات مؤسسة لإدارة القطاع الزراعي، يتمثّل فيها القطاعان العام والخاص.

فعلى سبيل المثال، من خلال لقاء مع إتحاد مزراعي الأرز، بدا واضحاً أنّ التعامل يتمّ مع هيئات وليس على مستوى أفراد، ما يضمن القدرة التنافسية للمزراعين وتحقيق إنتاج أعلى بكلفة أقل.

من جهته، يُشدّد وزير الخارجية التركية السابق وعضو مبادرة السلام الأزرق يسار ياكش، على ضرورة إستمرار مهمة السلام الأزرق. ويقول لـ«الجمهورية»: لقد أظهرت هذه الرحلة الميدانية أنّ هناك نموذجاً جيداً للتعاون في العالم، فإذا توافرت الإرادة السياسية، هناك مسافات يمكن قطعها في الشرق الأوسط، ونحن نركّز على ماذا سنخسر، إذا اتفقنا على آلية، يمكننا تحويل إهتمامنا إلى ماذا سنربح؟»، مستشهداً بتجربة السوق الأوروبية المشتركة والتي مهّدت لها الجماعة الأوروبية للفحم والصلب.

ففي نظر ياكش»إذاً هناك إمكانية لسوق مشتركة، فلماذا لا نستخدم المياه كوسيلة لذلك؟» أمّا الزعبي، فهي تستصعب إمكانية تطبيق تجربة نهر السينغال في الشرق الأوسط، وتعزو المشكلة الرئيسية إلى الصراع مع إسرائيل، لكنّها تعوّل في الوقت عينه على دوائر التعاون الصغيرة التي أطلقت، وتعتبر أنّ التحدي الكبير في أن تكبر هذه الدوائر لتحقيق أعلى مستوى من التعاون.

سدّ دياما

في الشقّ المالي، تتقاسم الدول الأربع تمويل المنظمة، وفق ما يؤكّد الأمين العام لمنظمة (OMVS) الدكتور بامادين، وتحصل المنظمة على قروض لتمويل الإستثمارات والمشاريع الكبرى من جهات عدة وفي مُقدمها البنك الدولي والدول العربية والوكالة الفرنسية للتنمية.

فعلى سبيل المثال، كلفة سدّ دياما الذي أنشئ عام 1986 تتقاسمها الدول، يأخذون القرض معاً ويدفعون معاً، فهناك دول تحتاج الى الكهرباء ودول أخرى الى مياه للزراعة، ودول الى الصناعة والملاحة. قبل بناء السدّ، لم يكن هناك إمكانية لإستخدام المياه للإستهلاك أو الزراعة، كما يشرح المعنيون في منظمة نهر السينغال إلى مجموعة السلام الأزرق التي عاينت السدّ على الحدود الموريتانية.

في المراحل الأولى، شُيّد سدّ «دياما» بهدف عزل المياه المالحة التي كانت تتدفق من محيط الأطلسي إلى النهر، واليوم بات يوفّر المياه العذبة طيلة السنة مع إمكانية ري 120 ألف هكتار من الأراضي لزراعة الرز، وتحوّل إلى أهم مصدر للطاقة في دول «منظمة إستثمار نهر السنغال»، حيث تعتمد عليه نواكشوط ودكار لتأمين قسم كبير من حاجتهما للكهرباء. في المقابل، ينتج سدّ ماننتالي نحو 800 جيغاوات سنوياً من الطاقة الكهربائية فضلاً عن توفيره المياه لري الأراضي الزراعية وضمان الملاحة في النهر على مدار السنة.

دروس وعبر

وعلى رغم النجاح المحلوظ الذي حققته الدول الأفريقية الأربع، إلّا أنّ رئيس «Strategic Foresight Group» في الهند صنديب واسليكر لا يؤمن بامكانية إستنساخ العمل المؤسساتي وإسقاطه على الشرق الأوسط.

ويقول: «في الشرق الأوسط، تتركّز غالبية الحديث على توزيع حصص الموارد المائية بين الدول المتاشطئة أو التي تتقاسم الأحواض النهرية. فدول المنبع تقول نحن نعيطكم أكثر من الممكن ودول المصب تشتكي من نقص الكمية»، متسائلاً: «لماذا لا تنتقلون الى الحديث عن تشارُك وتقاسُم منافع المياه؟» ويتابع واسليكر: «المشكلة الكبرى هي نفسيّة.

فبدل ان تركزوا على الخسائر ركزوا على المنافع. فسوريا والأردن لا يزالان يتجادلان على حصص توزيع المياه منذ العام 1973»، داعياً إلى البدء «بمواءمة البيانات، فالمعلومات هي علمية وليست استراتيجية. تجب مشاركتها، فتشارُك المعلومات لا يُشكّل تهديداً للنظام والأمة».

وإذ يشيد بالبنية المؤسساتية لمنظمة السينغال، يقول:»لست هنا لأصنّف قادة هذه الدول بالصالحين أو السيّئين، لكن المميز إعتمادهم على بنية مؤسساتية، فضلاً عن وجود إلتزام سياسي على أعلى مستوى للدول الأربع».

فالمزيد من العمل أُنجز بمساعدة دولية من دون شك، «لكن بدل التحجج بأنّ للمانحين الدوليين أجندات ومصالح خاصة»، متسائلاً:»لماذا لا تستفيد الدول النامية من إنخراط المانحين بدعم التنمية في بلدهم؟»

حاصل التعاون المائي

وعلى هامش الزيارة الميدانية، أطلقت «Strategic Foresight Group» تقريرها الجديد حاصل التعاون المائي( – Water Cooperation Quotient WCQ، في حضور وزير النفط والطاقة والمعادن الموريتاني، والرئيس الحالي لمجلس وزراء منظمة نهر السنغال محمد سالم بشير، ووزير المياه والصرف الصحي السنغالي منصور فاي.

وفي نظر بشير «إنّ المياه يمكن أن تكون مصدراً للنزعات إن لم يكن هناك إطار قانوني لإدارتها، من دون شك هناك بعض الخلافات داخل منظمة نهر السينغال، لكنّ التعاون موجود ويرتكز الى نموذج الإدارة المشتركة للمياه. وأتمنى ان تكون هذه الزيارة نقطة إنطلاق لتعاوننا في المستقبل وتضامننا بشكل مستدام». ويقيس التقرير الجديد «حاصل التعاون المائي» فعالية وحجم التعاون عبر الحدود في مجال المياه باستخدام عشرة معايير وهي الإتفاقات القانونية الأساسية، وإجتماعات على مستوى الوزراء

ووجود مؤسسات مستدامة للتعاون العابر للحدود، إرادة سياسية جدية، برامج إستثمارية مشتركة؛ إدارة جماعية للبنية التحتية المتعلقة بالمياه؛ جهاز لرصد تدفّقات المياه بانتظام وبصيغة تعاونية مع رؤية مشتركة تضمن التوزيع الأمثل للموارد المائية بين الزراعة والقطاعات الأخرى، ومنتدى للتفاعل المستمر بين الدول على مستوى صنّاع القرار.

وتشير الأدلة التجريبية في 148 دولة و205 أحواض نهرية مشتركة ذكرها التقرير إلى أنّ أي «دولتين منخرطتين في تعاون مائي فاعل لا تذهبان إلى الحرب». في المحصلة، على رغم الفقر والمشاكل التي تعاني منها الحكومات في حوض نهر السينغال، إلّا أنّ المياه كانت وسيلة للتعاون.

وفي فترات التوتر السياسي والعرقي بين دول النهر، لعبت منظمة إستثمار نهر السينغال دور الوسيط في تسوية النزاعات بين الأطراف، فما يمّيز هذه المنظمة تحليها بوفرة في الحكمة وهذا ما ينقص دول الشرق الأوسط، وتتطلع(OMVS) اليوم إلى التعاون مع لجنة نهر الراين في مجال التغيّر المناخي لتستلهم منها تجربتها في مقاربة هذه المسألة، يختم كومارا.