يعتقد العماد ميشال عون، ربما، أنّ انتخابه رئيساً سيشكّل تحولاً في المشهد السياسي، وسيؤدي إلى إخراج لبنان من الستاتيكو ووَضعه على سكّة الحل. فهل انتخاب عون يمكن أن يبدّل في مسار الأوضاع؟
لن يختلف انتخاب العماد عون عن غيره، فسيكون رئيساً لإدارة الأزمة شأنه شأن أيّ رئيس آخر، لأنّ الأزمة اللبنانية من طبيعة إقليمية، وقد زادت تعقيداً مع الحرب السورية، حيث أصبح أقصى طموح اللبنانيين تحييد لبنان بالحد الأدنى عن هذه الحرب تجنّباً لانزلاقه في فوضى تضرب الاستقرار النسبي القائم وتعيد تقطيع أوصال لبنان إلى مربّعات طائفية ومذهبية.
ويفترض أن يكون العماد عون قد اتّعظَ من تجاربه، أقلّه في اتفاقي الطائف والدوحة، حيث أن التسوية لا تنتظر أحداً، وأن الوقوف في مواجهة أيّ ترتيب دولي-إقليمي يجعله بالحد الأدنى خارج اللعبة وبالحدّ الأقصى يجرّ عليه تَبِعات كارثية.
وإذا كان من حقه الطموح بالرئاسة، ولكن من دون أن يكون هذا الطموح وسيلة للتعطيل، فمن مصلحته الفعلية ألّا يكون رئيساً، وذلك من أجل أن يُبقي في أذهان شريحة واسعة من الناس فكرة أنّ وصول الجنرال كان سيُحدث تغييراً عميقاً، لأنّ ممارسته ستخذلهم ليس من زاوية أسلوب حكمه، إنما لجهة عجزه عن تغيير فاصلة في القضايا الاستراتيجية.
ففي أذهان محبّي الجنرال أنّ ما بعد انتخابه ليس كما قبله، وأنّ لبنان سيدخل مرحلة جديدة شبيهة بانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، ولكن سيتبيّن لهم أنّ الشخص، على أهميته، لا يمكنه أن يحدث تغييراً من دون ظروف خارجية مساعدة، وهذه الظروف معدودة في تاريخ الأزمة اللبنانية، ويجوز حصرها بثلاثة: الفرصة التي لاحت مع انتخاب بشير بفعل التحوّل الكبير ومحاولة الوصول إلى اتفاق ثلاثي يخرج إسرائيل وسوريا ومنظمة التحرير من لبنان، والفرصة التي لاحت مع اتفاق الطائف الذي حصل نتيجة ظروف دولية، وأخيراً محطة العام ٢٠٠٥ التي أتى فيها الخروج السوري من لبنان كنتيجة لدينامية دولية.
ولا يبدو اليوم أنّ في الأفق أيّ تحوّل كبير بانتظار معرفة ما ستؤول إليه المفاوضات النووية الغربية-الإيرانية والاتفاق الدولي-الإقليمي على تقاسم النفوذ في المنطقة، وهذه المرحلة قد تتطلّب سنوات، ويكفي التذكير أنّ الوضع الجديد الذي نشأ في العام ٢٠٠٥ ما زال مستمراً حتى اللحظة من دون أيّ تغيير يُذكر، على غرار حقبة الوصاية التي استمرّت ١٥ عاماً، وقبلها الحرب الأهلية، الأمر الذي يجعل لبنان أمام احتمالين لا ثالث لهما: الانزلاق نحو الفوضى أو إدارة الصراع والأزمة.
فلا حلول في الأفق، والمشهد السياسي اللبناني والإقليمي سيبقى على تعقيداته، وأيّ محاولة لفصل الأزمة اللبنانية عن الإقليمية ستجرّ لبنان إلى الحرب.
ومن هنا خطورة وصول العماد عون إلى الرئاسة، لأنه سيحاول، انطلاقاً من شخصه وآمال الناس المعقودة عليه، تحريك الوضع، ما سيَرتدّ سلباً عليه شخصياً وعلى اللبنانيين، حيث يستبعد أن يُسلّم بحقيقة انه سيخرج كما دخل مع بعض اللمسات التي بإمكانه تركها في هذا المجال أو ذاك القطاع.
فوصول عون إلى الرئاسة لن يختلف عن دوره في مجلس النواب والحكومة، حيث أنّ تجربته في السلطة أسقطت أوّل وَهم بأنّ العونيين من كوكب آخر، وأنّ دخولهم إلى السلطة سيُحدث تغييراً نوعياً وعدوى إصلاحية وتغييرية، فيما هذه التجربة، التي لن ندخل في تقييمها الآن، لا تختلف عن غيرها حتى لا نقول أكثر من ذلك.
وبالتالي، فإنّ انتخابه رئيساً سيُسقط الوهم الآخر بأنّ الجنرال قادر على اجتراح حلول «عجائبية» للأزمة اللبنانية، لأنّ دوره سيكون بين حَدّين: بين إدارة الأزمة على البارد وإدارتها على الساخن.
وما يقتضي قوله صراحة يكمُن في حقيقتين:
الحقيقة الأولى أنّ شخص الجنرال ومواصفاته لا يتناسبان مع مواصفات الشخصية المطلوبة لمرحلة إدارة الأزمة. لا بل إنّ ممارسته رئيساً ستشكّل صدمة لدى جمهوره، لأنه سيظهر في موقع العاجز عن إحداث التغيير المنشود بفعل تعقيدات الظروف الخارجية.
وبالتالي، بدلاً من أن تشكّل الرئاسة تتويجاً لمسيرته ستكون نهاية لمسيرة سلطوية فشلت في ترجمة كل الوعود التي أغدقها على الناس، فيما من مصلحته أن يُبقي في أذهانهم صورة الجنرال القادر من قبيل «لَو وصلَ الجنرال» أو «لولا خِشية الطبقة السياسية من وصوله»، وتثمير هذه الصورة في تياره من أجل رَفده بمزيد من الدينامية، حيث أظهرت السنوات الأخيرة تراجعاً كبيراً في فعاليته.
الحقيقة الثانية أنّ إدارة الأزمة هي احتراف، لا مَذمّة ولا انتقاص، وقلة من الشخصيات قادرة على القيام بهذه المهمة التي لا يجوز الاستخفاف بأهميتها لسببين: الأول، لأنها تجعل لبنان في حال التناغم مع الرغبة الخارجية، ويخطئ كلّ من يظن انه قادر على قلب المعادلات بشخصه. والثاني، لأنها تتطلب الحنكة والمهارة والخبرة لإدارة التناقضات والتوفيق في ما بينها من أجل تقطيع المرحلة بالحد الأدنى من الخسائر.