Site icon IMLebanon

لماذا يلفّ الصمت السراي؟

كمَن يبحث في أيام المحلِ عن قديمه في الدفاتر العتيقة، يَجهد البعض سعياً وراء مخارج للمأزق الحكومي المتمادي بلا جدوى، فكلّ الطرُق المؤدّية إلى الممكن منها مقفَلة في انتظار مفاجأةٍ ما تُحَرّك المياه الراكدة. وهو ما انعكسَ صمتاً في السراي عبَّرَ فيه رئيس الحكومة تمّام سلام عن ألمِه مِن تَركِه وحيداً في بعض المحطات. فلماذا وصَلت الأمور إلى هنا؟

يَعترف الباحثون عن صيغةٍ ما تدفَع سلام إلى توجيه دعوة إلى جلسة جديدة لمجلس الوزراء، بأنّ العجز سيّد الموقف، وبات الخوف جدّياً من فقدان المخارج التي يمكن أن تؤدّي إلى إحياء العمل الحكومي بأيّ ثمن.

ذلك أنّ هناك مَن يخشى من اعترافه بأنّ الأخذ بملاحظات «التيار الوطني الحر» كما يريدونها سيُكرّس الشَلل الحكومي بطريقة ملتوية لا تُراعي ما يقول به الدستور وتجعل من رئيس الحكومة وزيراً عادياً لا يتقدّم في دوره ولا في موقعه على أيّ من الوزراء، فيما الدستور يَمنحه صلاحيات لا تُلغيها الوكالة التي منحَها الدستور لمجلس الوزراء عندما يمارس مجتمعاً صلاحيات رئيس الجمهورية.

ليس هناك أيّ خلاف في المبدأ على ما يبقى من صلاحيات رئيس الحكومة التي يحتفظ بها فيما لو كان رئيس الجمهورية موجوداً. لكنّ الخلاف وقعَ، كما يقول مرجع دستوري، على تفسيرها عند التباس بعض الأمور في الفصل بين صلاحيات الرَجلين.

فالتجارب السابقة كانت شاهدة على خلافات سَجّلتها الوقائع عندما عُدَّ تصرّف رئيس الحكومة تجاوزاً لحدّ السلطة واعتداءً على صلاحيات رئيس الجمهورية، وهو ما تمَّ ترميمُه وترقيعه في حينه بالأداء السياسي، وليس وفقَ التفسير الدستوري الواضح، ما جعلَ الأمر يتكرّر في مناسبات عدّة، فقالت فيه قوى الأمر الواقع يومها كلمةً حاسمة جازمة وتجاوزَت الحلول والمخارج ما تقول به النصوص الدستورية.

ليس أوان البحث في تاريخ العلاقة بين رئيس الجمهورية وأيّ من السلطات الأخرى، فالأزمة التي نحن في صددِها اليوم أعمق من ذلك بكثير، فهناك مَن يَعتبر أنّ تعطيل النصاب في مجلس النواب بهدف انتخاب رئيس جديد للجمهورية مفخَرة يتباهى بها مستنداً إلى قوّة قاهرة تتجاوز النصوص الدستورية الواضحة، فآلت الأمور إلى ما آلت إليه وتسَلّلَ الشلل التامّ إلى مجلس النواب وبات يُهدّد الحكومة حتى في لقاءاتها الدورية لمعالجة شؤون الناس العادية، في وقتٍ تتعدّد الاستحقاقات الماليّة والاقتصادية والبيئية والأمنية القائمة، وتلك المدبّرة على البلاد والعباد.

على هذه الخلفيات، يَعترف أصحاب النيّات الحسَنة بأنّه لم يعُد في البلد «أرانب في كُمِّ أحد». فالمحاولات التي قادها مهندس التسويات رئيس مجلس النواب نبيه برّي فقدَت رَونقَها عندما اعتبرَه البعض «طرَفاً غير محايد» وهو أمرٌ نادر جداً.

وافتقدَ زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط قدرته على ابتداع المخارج، فلم يعُد له سوى برّي رفيق دربه في الطرُق المتعرّجة لفقدان الثقة به في مواقع أخرى كان يستند إليها في الملمّات، وقد حاولَ في الأشهر الماضية استعادةَ موقعِه السابق ولم ينجَح، فيما صمتَ وجَمَّد سُعاة الخير السابقون مبادراتهم اعترافاً بعجزٍ ثبتَ بكلّ المعايير.

كلّ ذلك يحصل في وقتٍ لم يصَدّق اللبنانيون بعد أنّ المبادرات الديبلوماسية مفقودة، وأنّ العالم منشغِل في قضايا وضعَت ملف لبنان في آخِر سلّم الأولويات، على الأقلّ في المرحلة الراهنة، ولم يمنحوه سوى صفة البلد الآمن الذي لن تمتدّ إليه النار المشتعلة في كلّ مكان من العراق إلى سوريا واليمن، شرط أن يلتزم اللبنانيون الحدّ الأدنى من التوافق بتأجيل البحث في كلّ ما هو خلافيّ، إلى أن أخلَّ البعض بقواعد اللعبة الداخلية «فكربَجَت» البلد من دون أن توقِعَه.

وذلك بفعل تصنيف كلّ ما هو مطروح لإحياء العمل الحكومي في خانة المُسَكِّن الذي يَمنع مزيداً من الالتهابات والانهيارات، وباتت حماية الواقع المجمّد إنجازاً لا يمكن تجاهله بالقول «خيرٌ أن نحافظ على ما هو قائم خوفاً من بلوغ الأسوأ» والسيناريوهات المتداوَلة لا تُحصى.

وعليه، تبدو كلّ المخارج المطروحة لإحياء العمل التشريعي مقدّمةً للعمل التنفيذي غيرَ مطابقة للمواصفات، فسادَ صمتٌ مدَوٍّ في السراي. إذ عندما تُستدرَج العروض المطروحة للخروج من المأزق يَجدون أنّ مَن يملكون مفتاحَ الربط والحلّ يَعتقدون أنّ الخطوة الأولى المطلوبة انتخابُ رئيس للجمهورية قبل القيام بأيّ عمل آخر، وستَنهار كلّ الخلافات القائمة تلقائياً ويتوقّف الجدل البيزنطي في شأن صلاحيات السلطات وحدودها، وتنتظم العلاقة بين المؤسسات كما يجب أن تكون عليه في دولة المؤسسات.

وزاد في الطين بلّة نَعيُ المبادرات الأخرى التي تناولت تجميد قرار وزير الدفاع بما يتّصل بملفّ تأجيل تسريح قائد الجيش الذي لا نقاشَ فيه وأنّ ربطه بما هو مقترَح من تأجيل تسريح بعض العمَداء أنهى كلّ المساعي في شأنه. فإعادة النظر في قانون الدفاع تعيد البحث في مسائل يَرفضها المستفيدون منها شخصياً قبل رفض مَن يطلب منهم موقفاً منها.