خطفت تطورات بريتال الميدانية الانظار، في مشهد ارتسمت حوله علامات استفهام واسعة وتعددت القراءات السياسية لخلفياته وتداعياته، متقدمة الملف السياسي بتشعباته وتعقيداته، في ضوء البعد الخطير الذي اكتسبه الخرق الارهابي «للعمق البقاعي الشيعي»، وسط الخشية من انعكاسات سلبية محتملة على العسكريين الاسرى بعد فشل المفاوضات وانقشاع الايجابية التي سادت الملف خلال الايام القليلة الماضية.
ومع ان حقيقة معارك جرود بريتال لم تتظهر بوضوح، نسبة لتداخل الاعتبارات السياسية والامنية والعوامل الجغرافية التي حالت دون جلاء الملابسات بالكامل، فان المعطيات المتوافرة، بحسب اوساط مقربة من حزب الله افادت بان الهجوم كان متوقعا، لأن العناصر الارهابية درجت على اعتماد عنصر المفاجاة الذي يتقنه الحزب جيدًا نتيجة الخبرات العسكرية والأمنية التي راكمها مقاتلوه طوال الأعوام الأخيرة وخصوصا في المسرح السوري، مشيرة الى ان مسلحي «النصرة» الذي نفذوا هجوما ذات «طابع انتحاري» وبأعداد كبيرة وعلى أكثر من موقع على خط السلسلة الشرقية، وقعوا في فخ اخلاء أحد المواقع المتقدمة، واستدراج الحزب لهم للتقدم والتمركز فيه، قبل ان يعمد مقاتلوه الى تفجير عبوات مزروعة في محيط الموقع ما ادى الى سقوط عشرات القتلى والجرحى في صفوف المهاجمين، لافتة إلى أن الطرفين استخدما كل أنواع الأسلحة من رشاشة وصاروخية وأن مدفعية الحزب المنتشرة في أكثر من بلدة بقاعية قصفت التجمّعات العسكرية للمجموعات المسلحة التي كانت توغلت داخل الأراضي اللبنانية آتية من منطقة القلمون من محورين، الاول، بلدة عسال الورد السورية ومن ثم إلى جرود بريتال ويونين، والثاني، تلال نحلة -المعري، والتي وقعت بين فكي كماشة بعد تحرك مجموعات من الحزب من داخل القلمون وضربها ظهير القوات المهاجمة، متوقعة أن تعمد «النصرة» الى معاودة هذا النوع من العمليات، رغم كل الاحتياطات المتخذة من حواجز ونقاط مراقبة منعا للافساح امام المسلحين من استغلال اي ثغر أمنية في هذه المنطقة.
أيا تكن المعطيات المعلنة وغير المعلنة لوقائع المعركة المفاجئة التي حصلت في جرود بريتال فإنها تقاطعت على الأقل عند تطور مباغت في مسار آخذ بالخطورة عسكريا وأمنيا من زاوية تمدد التصعيد على الجبهة الشرقية للحدود اللبنانية مع سوريا، حيث تقول مصادر متابعة: نحن أمام فرضيتين: فإما ان هجوم المسلحين لم يكن باتجاه الأراضي اللبنانية بل على مواقع داخل جبال القلمون، وهم ساروا مع السلسلة الشرقية من الشمال إلى الجنوب، وإما ان المسلحين قرروا توسيع جبهتهم اللبنانية وما عادوا يريدون الاكتفاء بجبهة عرسال لوحدها. وإذا صحت الفرضية الثانية، فهي تعني ان لبنان سيعيش مرحلة دقيقة وخطرة لا يمكن حصر أبعادها وتداعياتها عسكريا وأمنيا.
في قراءتها لما حصل اعتبرت مصادر عسكرية لبنانية ان احكام الجيش اللبناني لسيطرته على حركة الانتقال بين عرسال وجردها، وتمكنه من فصل البلدة عن المنطقة الجردية ، ضيق الخناق على المسلحين، فلجأوا الى اسلوب العبوات الناسفة التي تم تعطيلها على طريق الجرد ، التي ما هي الا عينة من محاولاتهم لفك الطوق وتسهيل وصولهم الى عرسال، من جهة، وتغير المعطيات الميدانية بحيث لم تعد التنظيمات الارهابية تتمتع بموقع ميداني متفوق، دفع بمجموعات «النصرة» الى تغيير تكتيكاتها واستراتيجيتها، وتلخص المصادر العسكرية الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الهجوم بالنقاط التالية:
– محاولة فتح ممر حيوي بين جرود عرسال ومنطقة الزبداني السوري، باعتبار أن بقاءهم في فصل الشتاء محاصرين في جرود عرسال سيؤدي إلى انسحابهم من تلك المنطقة بسبب غياب الإمدادات اللوجيستية لهم بتلك المنطقة التي تعتبر آخر معقل للنصرة في جبال القلمون.
– جاء تحركهم نسبة الى ارتفاع منسوب الضغط العسكري ان في جرود عرسال او في القلمون حيث لم يعد لديهم أي مدينة او قرية يمكن ان يلجأوا اليها ما يدفعهم الى شن هجمات على قرى او بلدات محاولين السيطرة عليها، الا ان جميع محاولاتهم منيت بالفشل حتى الساعة.
– ما حصل نوع من جسّ النبض للجيش، ومحاولة لفتح جبهتين في آن، وذلك بهدف معرفة مدى جهوزية «الحزب» للمواجهة، ومدى السرعة في وصول فرق الدعم أو المؤازرة ومدى كثافة إطلاق النار وكيفية التعامل مع المسلحين. وفي المقابل، مدى استجابة الجيش لمثل هذه العمليات والتدابير التي قد تتخذ، واكتشاف درجة التعاون والتنسيق بين الجيش وحزب الله واستعداده للتدخل في عمليات المؤازرة.
– الطابع النوعي لما حصل من زاوية تمدد التصعيد على الجبهة الشرقية للحدود اللبنانية ـ السورية والاستهداف المباشر لمواقع حزب الله.
– تحقيق مفاجأتين، الاولى في الجغرافيا تمثلت في نقل المعركة من عرسال إلى بعلبك، والثانية، في العدو الذي تحدده «النصرة» لنفسها، إذ تحولت من قتال الجيش إلى قتال «حزب الله»
– جاءت العملية بعد محاولة الالهاء والخداع التي اعتمدها المسلحون على محور وادي حميد قبيل العملية وبعدها في محاولة تشتيت للجيش.
– محاولة الهاء حزب الله ودفعه الى حشد قواته على جانبي الحدود ما يجعله عرضة للاستنزاف.
– فشل المهاجمين بتحقيق عنصر المفاجأة بعد وقوعهم في عدد من الكمائن المحكمة.
– سعي المسلحين لخلق «حالة ما» او «مجزرة» في منطقة شيعية بهدف التخفيف من التدابير المتخذة في عرسال، في ظل تكتيكهم المتبع مع أهالي العسكريين الاسرى لا سيما لجهة الطلب اليهم قطع طرق معينة.
واكدت المصادر ان الجيش لن يقع في فخ العصابات الارهابية، وهو على اتم الاستعداد للمواجهة نتيجة الخبرة التي بات يتمتع بها في التعامل مع تلك المنظمات، مؤكدة على ان الجيش اللبناني تدخل عسكريا بفاعلية في مواجهات بريتال من خلال القصف المدفعي العنيف والمركز للمسلحين بمدافع الـ155 مشكلا سدا ناريا امام تقدمهم والتغطية الميدانية من الجو بواسطة طائرة الاستطلاع «سيسنا»، مطمئنة الى ان الاوضاع لا تستدعي القلق والجيش يتابع الموضوع ويراقب الوضع بحذر، مشيرة الى ان جميع من في المنطقة يدركون ان اسباب القلق كامنة وموجودة وواعون الى وجوب عدم السماح بخطوات عسكرية من هذا النوع، رغم خطورة الوضع والاحتقان المذهبي، لا سيما التوتر الشيعي – السني في أكثر من مناسبة، وتاييد قسم كبير من السنّة كل ما هو ضد «حزب الله»، بغض النظر عمن هو هذا الطرف.
وتقول المصادر، إذا كانت «النصرة» و«داعش» هدفتا ولا تزالان إلى تفكيك الجيش وتحريض المكون السني فيه على قيادته، من خلال الاعتداء عليه وتصويره جيشا صليبيا تارة وصفويا طورا، فإن الهدف من نقل المعركة من عرسال السنية إلى بعلبك الشيعية هو اشعال الفتنة السنية- الشيعية وتحريض المكون الشيعي على المكون السني، من خلال الاغارة على منطقة شكلت وتشكل خزانا استراتيجيا للمقاومة، ومعلما له رمزية اكتسبها طيلة ثلاثة عقود ونيف من الصراع مع اسرائيل.