تُحمّل طرابلس فوق طاقتها، وتُرمى في أوكار الدبابير. ليست المرة الأولى التي يراد للمدينة الوادعة أن تدفع أثماناً عن الجميع، وهي تذعن راضية، وهذه مَثْلَبة أبنائها الطيبين. طرابلس لم تهنأ بالسلم كما كل المدن اللبنانية الأخرى بعد توقف الحرب الأهلية المشؤومة. لم تترك لها نعمة أن تتنفس أو أن تعيش هدنة تعيد إليها الأمل، لم يتذكرها أحد يوم كانت عشرات المليارات تتدفق على لبنان، ويتنعّم بها المحظيون. تتالت حروبها، بأسماء وعناوين متباينة، غير أنها كانت دائمة عبثية، مفقرة، ومدمرة.
قبل ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، لم تكن المدينة قد استفاقت بعد من كابوس الحروب الطويلة بين جبل محسن وباب التبانة، المنطقتين الصغيرتين، القابعتين في الضاحية الشمالية. ليتبين بعد سقوط مئات الضحايا والمعوقين أن الألفة عميقة بين الطائفتين الجارتين، وأنه متى انفرط عقد التوظيف السياسي لبسطاء الناس، وتحريضهم المقيت بعضهم على بعض، يتعانق الكبار، ويزجون بالمزعج من أزلامهم في سجون مظلمة لا يخرجون منها، ويتركون عامة الناس نهباً للفاقة. أما ذكرى تلك الجولات التي حطت أوزارها عام 2015 بكبسة زرّ، بعد 7 سنوات عجاف، فتترك اليوم سخرية مريرة على وجوه الأهالي، وحسرة على من فقدوهم، وقتلاً اقتصادياً لا يبدو حتى اللحظة أن ثمة قيامة بعده.
نصف المحال التجارية في طرابلس أفلست إثر صراع لا ناقة لها فيه ولا جمل. لا يريد المواطن غير عيش كريم، ولقمة من عرق الجبين. التحريض الطائفي، يا لهول التحريض! يعيد دائماً عقارب الساعة إلى الوراء. وكأنما الزمن لا يتحرك، والتاريخ يبقى واقفاً متجمداً في ثأريته المميتة. عاصمة الشمال هجرت من كل محيطها، بعد أن كانت الملتقى. بات اسم طرابلس يخيف، وكأنها اقتطعت من جسد الوطن، وسخّرت لمن يريد أن يرمي بكيديته على أهلها.
استبشر الناس بثورة 17 أكتوبر خيراً، نزلوا عن بكرة أبيهم. كان يحلو لي أن أتأمل شبان باب التبانة وجبل محسن في «ساحة النور» يحملون جنباً إلى جنب الأعلام اللبنانية، ويغنون للحرية، وموت الطائفية. ذاك كان حلماً جميلاً، عاشه لبنان كله. النكسة ليست مطلب الأهالي. استكمال الثورة بتحطيم ما تبقى من دكاكين المدينة، ومصارفها، وقوت أهلها، بات يُفرض عليها لاغتيال ما تبقى لها من قوة. احتجاجات الناس ضرورة، الضغط في الشارع واجب، التظاهر حق. وهو ما يعلمه المتظاهرون المطالبون بكسرة خبز. لكن الدسّ السياسي لا يزال يلحق بالمدينة كلعنة. من استغل الطيبين يعود ليغرس بأجسادهم أنيابه وهم يصرخون ضد الجوع.
إرسال المرتزقة والزجّ بهم بين المحتجين، وتوريط الأبرياء في التخريب والتدمير، ليس شهامة، بل من دنس السياسة اللبنانية وألاعيبها القذرة. تعود الأطراف المتناحرة لتصفي حساباتها، مستغلة كما كل مرة، عوز البؤساء. تحطيم لمؤسسات عامة، مصالح خاصة، سيارات، بيوت، في زمن ليس بمقدور مواطن إعادة تركيب زجاج نافذة.
نُفخ في حماسة طرابلس عند بدء الاحتجاجات، ولم تغادرها كاميرات التلفزة التي كانت تضخّم عدساتها أعداد المحتجين، كي تؤكد أنها «عروس الثورة». وها هم الطرابلسيون بعد أن توالى تدفق المجموعات من خارج مدينتهم آتية للتكسير والحرق لليلة الثالثة من دون رحمة، يخشون أن يصبحوا «خروف الثورة» وأضحيتها، بعد أن سمّنوا ليذبحوا.
لا براءة لأحد من دم طرابلس. لكن النقمة الكبرى في المدينة على نوابها وسياسييها، الذين انتُخبوا وحُملوا على الأكتاف. لا مبالغة بالقول إن لطرابلس إمكانات ليست لأي مدينة لبنانية أخرى. كان بمقدورها أن تنتشل البلاد من ديونها. أهمل مرفأها مع أنه الأكبر على الحوض الشرقي للمتوسط بقدراته الطبيعية، وخلفياته الهائلة للتخزين. تركت للصدأ مصفاة تكرير البترول، ولم تستثمر. صار معرض رشيد كرامي، تحفة المهندس المعماري البرازيلي أوسكار نيماير الممتدة على مساحة مليوني متر مربع بصالاتها وحدائقها ومسارحها التي لا مثيل لها في لبنان، وربما في المنطقة، فرجة للحسرة. المدينة المملوكية الثانية بعد القاهرة، المتحف الحي النابض بالتاريخ، وصل بهم الاستغلال إلى حد تشويه معالمه بـ«التلييس» ونزع أبواب محاله الخشبية الثرية واستبدال الألومنيوم البشع بها، بحجة الترميم. إذا كانت بيروت تيمم صوب الحداثة، فطرابلس أم الأصالة، بمأكولاتها ومشاربها، وخاناتها، وأبراجها وأسواقها وحماماتها وقلعتها الصليبية الشامخة. منطقة النهر التي تظهرها الصور القديمة فينيسا الشرق ومنازلها الجميلة تسبح في الماء، دفع عليها باهظ الأثمان لإحالتها دمامة لا يمكن تحملها. كل ذلك كانت تنفذه حكومة بعد أخرى. تدفن المشروعات، إما غباء، وإما لأن الصفقات لم تكن تدرّ ربحاً وفيراً، وإما لخلافات بين متقاسمي المليارات، وربما لأن انتشال الناس يعني تحررهم من التمسك بأذيال الزعيم.
أي أسى لم ينزل بطرابلس. مع ذلك رُمي أهلها بالعنف بحجة أنهم فقراء، هذا اسمه تجنٍ وظلم على الظلم. أهل المدينة لهم من السماحة والقدرة على الغفران، ما يجعلهم سلميين إلى حدّ مستفزّ، وطيّعين لاستخدامهم مطية، لمن تسوّل لهم أنفسهم ذلك.
قدر كبير من الوعي يستيقظ في قلوب الشبان الذين يرون ثورتهم تسرق من قطّاع طرق وانتهازيين. عدد كبير منهم ما عاد يتظاهر، خشية من «كورونا» أو تحسباً من أعمال لا تليق بهم. لكن الدعوات بدأت، والاستنهاض يكبر للوقوف سداً منيعاً في وجوه من يستغلون الحجْر الصحي، ليعبثوا بأمن الناس، وليعيدوا وصم المدينة تارة بالإرهاب، وتارة أخرى بالتخلف.
ثمة صفحة تطوى، لكن يخشى أن تكون مكلفة جداً.