عندما كان مايكل كوهين، المستشار الشخصي للرئيس دونالد ترامب، يهاجم معلمه السابق أمام لجنة تحقيق تابعة للكونغرس، كان زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون يعقد اجتماعه الأول مع الرئيس الأميركي.
ولمح وزير الخارجية مايك بومبيو الى غضب ترامب لدى إطلاعه على اعترافات كوهين الذي وصف الرئيس بالكذوب، العنصري، المخادع الذي لم يتورع عن عقد صفقة مع موسكو في انتخابات 2016.
وكان واضحاً من الصور التي التقطت في أول اجتماع عقد في هانوي أن الرئيس الأميركي بدا مرتبكاً، شارد الذهن كأنه يفكر في اعترافات كوهين لا بالتفاوض مع الزعيم كيم.
وبخلاف ما حصل في قمة سنغافورة، فإن قمة هانوي فشلت في تجسير الخلاف المؤجل بين الرئيسين. وهذا ما يفسر مغادرة ترامب على عجل، علماً أن رحلته استغرقت عشرين ساعة في طائرة الرئاسة. أما كيم فقد وصل الى عاصمة فيتنام بعدما أمضى عشرين ساعة في القطار. وكان من الطبيعي أن تتساءل الصحف الأميركية عن الأسباب التي دعت زعيم كوريا الشمالية الى اختيار السفر بالقطار وليس بالطائرة!
والسبب كما أعلنته كوريا الجنوبية يعود الى اهتراء طائرات الأسطول الجوي المدني، الأمر الذي فرض على كيم استخدام طائرة صينية عندما توجه الى قمة سنغافورة.
ويُستدَل من مراجعة أحداث السنة الأولى من رئاسة دونالد ترامب أنه تعرض لاستفزازات متواصلة من قبل زعيم كوريا الشمالية. ففي كل شهر تقريباً كان يأمر باختبار صاروخ باليستي بهدف ترويع اليابان وكوريا الجنوبية والقوات الأميركية المرابطة في جزيرة غوام. وقد ضاق صدر الرئيس الأميركي من شكاوى حلفائه، الأمر الذي دفعه الى تصعيد التحدي والإعلان أن بلاده قادرة على محو كوريا الشمالية من الوجود. ثم أتبع تحذيره بإرسال قاذفتين استراتيجيتين، وإطلاق صاروخ عابر للقارات من دون رأس نووي. وعلى رغم اعتراض الصين وروسيا، نشرت كوريا الجنوبية وحدات «ثاد» المضادة للصواريخ.
حيال تفاقم الخيارات العسكرية، اقترحت بكين مطالبة كوريا الشمالية بوقف تجاربها النووية في مقابل تخفيف العقوبات وتطوير العمل الديبلوماسي لحل النزاع القائم.
ويرى المراقبون أن كل فريق كان محتاجاً الى هدنة طويلة تساعده على مقاومة المخاوف والهواجس التي تشغل باله. وكان الزعيم الشاب كيم أكثر المسؤولين اهتماماً بسلامته الشخصية، وبأمن النظام الذي ورثه عن والده سنة 2011. وقد نجح في ترهيب 25 مليون مواطن، وحضهم على طاعته العمياء. وقد أعدم زوج عمته الذي كان يشك في إخلاصه… كذلك أتبعه بالقضاء على 140 عسكرياً من رتب مختلفة.
وقد أدركت الصين وروسيا اللتان تشتركان مع كوريا الشمالية بحدود واسعة أن مصالحهما الأمنية تقتضي الحفاظ على أمن الجارة المشاغبة. والسبب، كما يراه المحللون، أن نظام كوريا الشمالية يمثل ضمانة عسكرية لضبط الأمن في محيط مضطرب. لأنه في حال انهيار النظام الديكتاتوري الذي أسسته أسرة واحدة قبل أربعين سنة تقريباً، فإن الفوضى ستزحف نحو الحدود الصينية – الروسية. وربما تقع أسلحة الدمار الشامل في أيدٍ مارقة. ومن المؤكد أن الحرب الأهلية ستندلع وتؤدي الى أزمة لاجئين ضخمة تفوق المأساة السورية.
ومع أن علاقة كل من روسيا والصين بكوريا الشمالية مختلفة ومتباينة، إلا أن مصالحهما تتقاطع في ثلاث مسائل: أولاً – رفضهما نشر منظومة الصواريخ الدفاعية «ثاد» في كوريا الجنوبية. ثانياً – قلقهما من اندلاع أزمة لاجئين يترتب عنها انهيار كوريا الشمالية. ثالثاً – احتمال توحيد شبه الجزيرة مثلما ترغب سيول حليفة الولايات المتحدة.
قبل أن يباشر ترامب رحلته الى هانوي، طلبت كوريا الجنوبية تثبيت العقد القائم مع واشنطن، خوفاً من تقديم تنازلات الى بيونغ يانغ تمسّ بسلامة أمنها الوطني. وكان ذلك الطلب بمثابة تجديد عقد قديم تعهدت فيه واشنطن بحماية أمن كوريا الجنوبية. وخلال المحادثات، وافقت حكومة سيول على رفع مبالغ مشاركتها الى 925 مليون دولار، كجزء إضافي من المدفوعات المقدمة سنوياً الى فرقة الحماية الأميركية المؤلفة من 28500 جندي. وكل ما فعله المفاوض الأميركي تيموثي باتس هو أنه أعفى حكومة سيول من الاشتراك في دفع نفقات المناورات العسكرية.
قبل سفره الى هانوي، اجتمع الرئيس ترامب بعدد من المسؤولين عن الاستخبارات الخارجية. وافتتح الجلسة معهم بسؤال مباشر خلاصته: «هل تتصورون أن بيونغ يانغ ستتراجع عن تطوير برنامجها النووي إذا نحن وسعنا حلقة العقوبات؟»
ستة من أصل تسعة أجابوا بالنفي. وحجتهم أن كوريا الشمالية أجرت خمس تجارب نووية بين سنة 2006 و2016. وقد عاقبها مجلس الأمن الدولي باستخدام سلاح التهديد وزيادة الضغوط بحيث تكبدت خسائر مالية ضخمة، وحُرِمَت من القدرة على بلوغ مواد خارجية. كذلك عانت من بطء النمو الاقتصادي، وشحّ في كميات الأغذية، وندرة في الطاقة، ونقص كبير في العملة الأجنبية. كل هذه العقوبات أخفقت في حمل الزعيم كيم على تجميد برنامجه النووي.
مصادر الأمم المتحدة عزت هذا الموقف الى خلو العقوبات من أي إشارة الى الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. ولقد اتخذت كوريا الشمالية من هذه الثغرة ذريعة لتبرير استئناف تطوير برنامج التسلح.
استناداً الى التقدم الذي أحرزه الرئيس ترامب أثناء اجتماعه الأول مع كيم جونغ أون في سنغافورة، قرر استكمال المفاوضات على أمل بناء تسوية ثابتة وراسخة. لذلك أعرب عن تفاؤله بنتائج القمة الثانية في العاصمة الفيتنامية. وقد مهّد لمحادثاته في هانوي بإغداق وعود خيالية توقع أن يكون لها الأثر الكبير في تحسين الوضع الاقتصادي المهترئ لكوريا الشمالية. ونُشرت في الصحف الأميركية سلسلة إعلانات تتحدث عن مشاريع استثمارية وسياحية تساعد على انفتاح البلاد المغلقة لكي يتمتع الشعب بحرية السفر، وحرية استقبال السياح.
ومن أجل تعزيز فكرة الانفتاح والترويج لنتائجها، سافر الكاتب البريطاني مارسال ثيرو الى كوريا الشمالية ليمضي أسبوعين بين البحر والجبال. وعاد ليكتب في الـ «صنداي تايمز» تحقيقاً مصوراً حدّد من خلاله الخريطة السياحية التي توفرها «كوستا دال كيم.» وقد تمت هذه الرحلة بموافقة بيونغ يانغ وتعاونها.
ومع أن فشل المفاوضات لم يسمح بالتطرق الى هذا الموضوع الحساس، إلا أن مجرد طرحه يدل على جهل الولايات المتحدة في فهم ذهنية حكـّام العالم الثالث. والدليل على ذلك أن كوريا الشمالية حافظت على البقاء داخل الستار الحديدي مدة تزيد على أربعين عاماً، علماً أنها تلقت كثيراً من الإغراءات التي عرضتها جارتها اليابان، ودولة شطرها الآخر، كوريا الجنوبية. والسبب في نظر الزعيم كيم أن سياسة الانفتاح تعرضه لتغيير طبيعة النظام الذي يجعل منه اليوم نصف إله ومعبود الجماهير. كما يؤمن له السرية الكاملة لصنع أسلحة الدمار الشامل.
بقي السؤال المتعلق بأسباب فشل المحادثات!
في مراجعة لوقائع الجلسة اليتيمية في هانوي يظهر أن الرئيس ترامب فوجئ بالاستهلال التعجيزي الذي افتتح به الزعيم كيم المحادثات. قال، وهو يواجه الرئيس الأميركي: «إن التقدم في المحادثات متوقف على مدى قبولك إلغاء كل العقوبات دفعة واحدة!».
وقد برر البيت الأبيض إنهاء المحادثات بإصدار بيان باسم الرئيس، جاء فيه: «عندئذٍ تأكدت أن رؤيته للحل تتناقض مع رؤيتي، لذلك قررت الانسحاب».
وعلى الفور ألغي الاحتفال بهذه المناسبة، كما ألغيت مأدبة الغداء المعدّة للضيفين ووفديهما.
السبب الحقيقي كما فسره وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون، يتعلق بما يجري في واشنطن وليس بما يجري في هانوي. ذلك أن الرئيس اطلع على الاعترافات الكاملة التي أدلى بها محاميه ومستشاره السابق مايكل كوهين أمام الكونغرس. وبدلاً من الاعتذار وتأجيل الموعد، اتخذ من الشرط التعجيزي الذي افتتح به كيم المحادثات سبباً للانسحاب والعودة سريعاً الى واشنطن. وقد وضع ملامة الفشل على كيم جونغ أون!
* كاتب وصحافي لبناني.