تحكم لبنان، في المفاصل الأساسية، معادلة الرؤساء الثلاثة زائدين واحداً، أي رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة، زائدين وليد جنبلاط. هو جزء من معادلة صناعة القرار السياسي الكبير في لبنان، وعضو في ناديه لا ينوب عنه أحد.
ينوب «حزب الله» مثلاً عن الوزير سليمان فرنجية لو اضطر لذلك. يأكل الموارنة حصة الأرثوذوكس في القرار السياسي من دون رفة جفن، بعد أن تزعم الأرثوذوكس النطق باسم المسيحيين طوال حقبة الوصاية السورية على لبنان، مكان الموارنة المبعدين إلى باريس، كما هي حال الرئيس أمين الجميل وقائد الجيش السابق ميشال عون، أو الساكنين في أقبية سجن وزارة الدفاع اللبنانية، كما كانت حال رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع.
إلا وليد جنبلاط حين يقرر، هو زعيم «الهنود الحمر» كما قال عن الدروز، في إشارة إلى تضاؤلهم الديموغرافي في لبنان، وهو زعيم بحجم بلاد حين يشم رائحة الفرصة أو يقرأ مخاطر وجودية عليه أو على البلاد.
عام 2005، كان يمكن لاغتيال الرئيس رفيق الحريري أن يمهد للإطباق السوري الإيراني الكامل على لبنان، لولا وليد جنبلاط. كان الرجل بدأ منذ عام 1998 يشعر بأن لبنان مقبل على صدام مع النخبة السياسية الجديدة الصاعدة في سوريا بشخص «الدكتور» بشار الأسد، الذي ورث أباه بعدها بسنتين. وبدأ منذ ذلك التاريخ يبني الحاضنة الاستراتيجية للالتفاف على «سوريا الجديدة» قيد الولادة، منفتحاً على المسيحيين، واصلاً إلى مصالحة الجبل التاريخية عام 2000، مراهناً على رياح التغيير التي بدأت تهب على عالم ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ثم إسقاط نظام البعث في العراق ربيع عام 2003، حتى إذا جاء اغتيال الحريري، وقف جنبلاط صارخاً بقولٍ لأبيه: «لم نعد وحدنا في هذا العالم، إنما المطلوب هو الصمود».
بهذا المعنى شكل وليد جنبلاط الرافعة الحية للاستقلال الثاني، الذي صار رفيق الحريري رافعته الشهيدة. قاد اللبنانيين في لحظة قاتمة من اليأس والخوف إلى قلب النور والضوء، بكل ما له وما عليه في هذه القيادة التي في سجلها كثير من التناقضات والأخطاء وأنصاف المواقف؛ لكن هذا بحث آخر.
يعرف «حزب الله» هذه الحقيقة، ويعرف أن وليد جنبلاط، وليس الرئيس سعد الحريري أو الدكتور سمير جعجع، هو الوحيد القادر في أي لحظة دولية مواتية الآن، على أن يشكل نقطة التقاء داخلية بين مختلف قوى وجماهير «14 آذار» الكامنة، وقيادتها نحو موجة جديدة من طلب السيادة والاستقلال عن وصاية «سلاح حزب الله» هذه المرة. وهو البقعة الأخيرة التي ما تم ترويضها في العمق، والزعامة التي بنتيجة الخصوصية الدرزية ما زالت تمسك بعصب بيئتها وشرعية تمثيلها الحاسم، وتتمتع بقدرة تجيير كل ذلك لصياغة حالة وطنية تتجاوز الدروز إلى ما هو أبعد.
بإزاء هذه المعطيات التي يعرفها «حزب الله»، تصدَّر الأمين العام للحزب حسن نصر الله شخصياً معركة كسر وليد جنبلاط، أياً يكن الثمن، في حين أن جنبلاط يتصرف على قاعدة أن المواجهة التي يخوضها قد تكون الأخيرة.
حين فرضت واشنطن عقوبات على «حزب الله» طالت رئيس كتلته البرلمانية ونائب الحزب عن العاصمة بيروت، وأحد أبرز قادته الأمنيين السياسيين، تفرد وليد جنبلاط بالصمت. رفضها رئيسا المجلس والجمهورية مباشرة. حتى رئيس الحكومة سعد الحريري اضطر لإصدار بيان عن العقوبات، وإن اختار له لغة غائمة تقصَّد منها ألا يُفهم من البيان شيء. إلا وليد جنبلاط، ظل على صمته إزاء العقوبات على «حزب الله». وكان قد سبق ذلك أن أعاد جنبلاط طرح مسألة مزارع شبعا ولبنانيتها، وهو الاسم الحركي لمعركة نزع الشرعية الوطنية عن سلاح «حزب الله»؛ حيث إن المقاومة يبررها الاحتلال ويبددها التحرير إذ يكتمل نصابه السيادي.
ليست هذه المواقف من نوع التفاصيل التي يمكن لـ«حزب الله» أن يهملها؛ لكن الفارق كبير بين التوقف عندها، وبين الاستثمار فيها لتصعيد الاشتباك مع وليد جنبلاط إلى الحدود الراهنة.
في «علم التفسير»، أن «حزب الله»، وفي ضوء تصاعد الاشتباك الإقليمي بين إيران وأميركا وحلفائها الخليجيين وإسرائيل في المنطقة، قرر مغادرة مربع التهدئة في لبنان، و«احتجاز» البلاد في «مضيق» التشنج، أو بالحد الأدنى بعث برسالة عبر «تأديب» جنبلاط إلى كل من يعنيهم الأمر، ألا تراهنوا على استثمار ما يحصل في المنطقة لصالح تغيير التوازنات السياسية في لبنان، والمختلة لصالح «حزب الله».
وفي «علم التفسير» أيضاً، أن جنبلاط هو من قرر أن يصيب عصفورين بحجر واحد: أولاً أن يخرج من بيت الطاعة المفروض عليه منذ قانون الانتخابات، ثم تشكيل الحكومة، وما أديا إليه من «اختراع» مراكز قوى جديدة في الجبل، يعتقد أنه أطاح بها منذ حادثة قبرشمون في 30 يونيو (حزيران)، وكسَرَ شوكة حلفاء «حزب الله» الدروز فيها. وثانياً أن يكون شريكاً في لعبة حصار «حزب الله»، من خلال إرباك قبضة الحزب على لبنان وإشغاله بمؤشرات ولادة جبهة داخلية ضده، في لحظة هو أحوج ما يكون فيها إلى أوسع التفاف لبناني حوله، وأعلى درجات السكينة في الداخل اللبناني.
أياً تكن الأسباب، وليد جنبلاط يخوض معركة وجود، خطيرة، لا نجاة مضمونة في ختامها.