IMLebanon

لماذا كان وعد بلفور؟

 

في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 صدر الوعد البريطاني الشهير بمنح اليهود وطناً قومياً في فلسطين؛ حمل الوعد توقيع وزير الخارجية في ذلك الوقت آرثر بلفور. يقول بلفور في كتابه «العقيدة والإنسانية» (Theism and Humanity) إن الله أغدق على اليهود وعداً بالعودة إلى أرض الميعاد، وإن هذه العودة هي شرط مسبق للعودة الثانية للمسيح. وإن هذه العودة الثانية تحمل معها خلاص الإنسانية من الشرور والمحن ليعمّ السلام والرخاء مدة ألف عام تقوم بعدها القيامة وينتهي كل شيء كما بدأ.

ولذلك عندما صاغ بلفور الوعد بمنح اليهود وطناً في فلسطين، كان يعتقد أنه بذلك يحقق إرادة الله، وأنه يوفر الشروط المسبقة للعودة الثانية للمسيح، وبالتالي فإنه من خلال مساعدة اليهود على العودة فإنه يؤدي وظيفة العامل على تحقيق هدف إلهي. مع ذلك لم يكن بلفور قادراً على أن يجعل من الوعد أساساً مركزياً في السياسة البريطانية لو لم يكن يشاركه في ذلك لويد جورج رئيس الحكومة في ذلك الوقت. فقد ذكر لويد جورج في كتابين له هما «حقيقة معاهدات السلام» و«ذكريات الحرب» أن حاييم وايزمن، الكيمائي الذي قدم خدماته العلمية لبريطانيا في الحرب العالمية الأولى، هو الذي فتح له عينيه على الصهيونية، حتى أصبح أكثر صهيونية من وايزمن نفسه. وهكذا عندما تشكلت الحكومة البريطانية من لويد جورج رئيساً ومن ارثر بلفور وزيراً للخارجية، بدا وكأن كل شيء بات مؤهلاً لتمرير بيان الوعد.

في عام 1952 نشرت وزارة الخارجية البريطانية وثائق سرّية عن فترة 1919 – 1939، بما فيها تلك التي تتعلق بتوطين اليهود في فلسطين.. ويتضمن المجلد الرابع من المجموعة الأولى في الصفحة السابعة نقلاً عن مذكرة وضعها بلفور نفسه في عام 1917 ما يأتي: «ليس في نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع أن اللجنة الأميركية تحاول استقصاءها. إن القوى الأربع الكبرى مُلتزمة بالصهيونية. وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة، فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد وفي الحاجات الحالية وفي آمال المستقبل، وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة». أما بالنسبة للاستيطان اليهودي في فلسطين فقد أوصى في الجزء الأخير من هذه المذكرة بما يلي: «إذا كان للصهيونية أن تؤثر على المشكلة اليهودية في العالم فينبغي أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود. ولذا فإن من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائية التي تخصّها بشكل طبيعي سواء أكان ذلك عن طريق توسيع حدودها شمالاً (أي باتجاه لبنان) أم عن طريق عقد معاهدة مع سوريا الواقعة تحت الانتداب (الفرنسي) والتي لا تعتبر المياه المتدفقة من الهامون جنوباً ذات قيمة بالنسبة لها. وللسبب ذاته يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضي الواقعة شرقي نهر الأردن».

لم يكن العامل الديني السبب الوحيد وراء إصدار الوعد. كانت هناك مصالح ذات بعد استراتيجي. كانت بريطانيا قلقة من جراء هجرة يهود روسيا وأوروبا الشرقية الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد. وفي عام 1902 تشكلت «اللجنة الملكية لهجرة الغرباء». استُدعي هرتزل إلى لندن للإدلاء بشهادته أمام اللجنة، فقدم مطالعة قال فيها: «لا شيء يحلّ المشكلة التي دعيت اللجنة لبحثها وتقديم الرأي بشأنها سوى تحويل تيار الهجرة الذي سيستمر بقوة متزايدة من أوروبا الشرقية. إن يهود أوروبا الشرقية لا يستطيعون أن يبقوا حيث هم فأين يذهبون؟ إذا كنتم ترون أن بقاءهم هنا، أي في بريطانيا، غير مرغوب فيه، فلا بد من إيجاد مكان آخر يهاجرون إليه من دون أن تثير هجرتهم المشاكل التي تواجههم هنا. لن تبرز هذه المشاكل إذا وجد وطن لهم يتم الاعتراف به قانونياً وطناً يهودياً».

هنا كان لا بدّ بعد تشريع وقف الهجرة من تأمين ملجأ بديل، فكان قرار بلفور منح فلسطين وطناً لليهود. كان بإمكان بريطانيا التدخل لمنع تهجير اليهود من أوروبا الشرقية، إلا أنها وجدت أن لها مصلحة في توظيف هذه العملية في برنامج توسعها في الشرق الأوسط، فحوّلت قوافل المهاجرين إلى فلسطين بعد أن منحتهم الوعد بالوطن وبعد أن وفرت لهم الحماية والمساعدة اللازمتين.