IMLebanon

“السفيه اكتفيه”

 

«إِنِّــي نَــزَلْــتُ بِــكَــذَّابِـيـنَ ضَـيْـفُـهُـمُ

 

عَـنِ الْـقِـرَى وَعَـنِ الـتَّـرْحَـالِ مَحْدُودُ

 

جُـودُ الـرِّجَـالِ مِـنَ الْأَيْـدِي وَجُودُهُمُ

 

مِــنَ اللِّـسَـانِ فَـلَا كَـانُـوا وَلَا الْـجُـودُ

 

مَـا يَـقْـبِضُ الْمَوْتُ نَفْسًا مِنْ نُفُوسِهِمُ

 

إِلَّا وَفِــي يَــدِهِ مِــنْ نَــتْــنِــهَــا عُــودُ

 

صَــارَ الْــخَـصِـيُّ إِمَـامَ الْآبِـقِـيـنَ بِـهَـا فَـالْـحُـرُّ مُـسْـتَـعْـبَـدٌ وَالْـعَـبْـدُ مَـعْـبُودُ

 

نَـامَـتْ نَـوَاطِـيـرُ مِـصْـرٍ عَـنْ ثَـعَـالِبِهَا

 

فَـقَـدْ بَـشِـمْـنَ وَمَـا تَـفْـنَـى الْـعَـنَـاقِيدُ

 

الْــعَــبْــدُ لَــيْــسَ لِــحُــرٍّ صَـالِـحٍ بِـأَخٍ

 

لَــوْ أَنَّــهُ فِــي ثِــيَــابِ الْـحُـرِّ مَـوْلُـودُ

 

لَا تَــشْــتَـرِ الْـعَـبْـدَ إِلَّا وَالْـعَـصَـا مَـعَـهُ

 

إِنَّ الْــعَــبِــيــدَ لَأَنْــجَــاسٌ مَــنَـاكِـيـدُ»

 

(أبو الطيب التنبي)

 

في كل مرة أبحث عن شعر يعبّر عن حديثي أرى نفسي أعود إلى أبي الطيب، فلم يترك شيئاً مر عليه في تجربته الطويلة وإخفاقاته المتعددة في بلوغ مرتبة يراها تليق به، إلا وتحدث عنه وخلّده في بيوت شعره. مع تحفّظي على ربط لون كافور الأخشيدي بالعبودية، فأنا أقصد بالعبودية بوضع سياسي اجتماعي ونفسي، يتخطى عرق ولون العبد، وحتى مرتبته.

 

في البيتين الأخيرين ندم واضح على كونه استدرج لصحبة العبيد بنفسيتهم ولو أنهم تحولوا في غفلة عن «نواطير مصر» أسياداً يحكمونها. كما الندم واضح من «العود النتن» الذي تركته صحبة هذه الفصيلة من البشر ليقول «عيد بأي حال عدت يا عيد؟». هذا بالطبع لا يصفح للشاعر العبقري انتهازيته وتجاوزاته للمنطق في سبيل تحقيق «لـوْلَا الْـعُـلَا لَمْ تَجُبْ بِي مَا أَجُوبُ بِهَا وَجْــنَــاءُ حَــرْفٌ وَلَا جَـرْدَاءُ قَـيْـدُودُ».

 

في طفولتي كانت جدتي تقول لي، في كل مرة أعود من اللعب في الشارع ومظاهر البهدلة بادية علي، من ثياب ممزقة أو فدغ أو كدمة أو جرح، «الحق عليك، ألم أقل لك السفيه اكتفيه، وقليل الأصل ما لك فيه؟». ما يعرفه الحس الشعبي هو أن نوعاً من الناس يبنون سمعتهم على أذية الآخرين جسدياً كما على صفاقتهم وسفالة حديثهم ومنطقهم للأذية المعنوية لإرهاب الناس. هؤلاء يفتقدون عادة إلى ثقافة الحوار وبناء الحجج المنطقية، فينتقلون مباشرة إلى الشتائم ويبادرون إلى الأذية والضرب. قوة هؤلاء في كونهم رعاعاً لا يردعهم شيء، ما يجعلهم خارجين عن المنطق السليم في تصرفاتهم وردود فعلهم.

 

المصيبة هي أنهم لا يبالون بسمعة طيبة، لا بل يصرون على أن تلحق بهم صفة «البلطجي» لإخراس الآخرين الذين يخافون على أنفسهم من الأذية الجسدية إن ضربوا، والأذية المعنوية إن شتموا. بالنهاية فإنّ البشري العادي الذي يقع في مصيبة من هذا النوع سيخرج خاسراً في كل الأحوال، أكان ضارباً أم مضروباً، شاتماً أم مشتوماً، فالرابح هو دائماً ذاك البلطجي الذي ينجح في تحويل الحوار لمصلحته، على الأقل من خلال إدخال الآخر في مستنقع الحثالة الذي يتقن بعض الناس فن السباحة فيه، فيما يخرج الآدمي منه بثياب ممزقة وملوثة، ورائحة النتانة تلتصق بجلده لسنوات طويلة، مهما حاول غسل جسمه وضميره من تلك السقطة. أما البلطجي فسيحوّل الأمر إلى انتصار جديد يسجل له ليتعلم منه الآخرون، لا بل أنه قد يقبض الثمن من مشغليه بزيادة حظوته والتمادي في الاعتماد عليه لبهدلة من تسول له نفسه رفع صوته. مع أنّ نصائح جدتي بقيت عالقة في وجداني، فقد استدرجت في بعض المرات للتجربة ولم أنج من الشرير. ففي تجارب سابقة كنت أعلم مسبقاً بعدم جواز مواجهتي مع بلطجي آخر، خرجت في النهاية مكلوماً بجرح النزول إلى ساحة الرعاع، ما دفعني للاعتذار من نفسي لسنوات طويلة، في حين أنّ البلطجي علّق على كتفه نجمة إضافية في سلك خدمة رعاته البلطجيين. لكن، هل من المنطق ترك الساحة للرعاع يصولون ويجولون في وسائل الإعلام، لا بل تتم دعوتهم بشكل متكرر كالضجر، لمجرد أنّ «الجمهور عايز كده»، أي أنهم يسجلون خبطة ونجاحاً إعلامياً وزيادة المشاهدة. وحسب ذاكرتي فإنّ الصحافى الذي أدار تلك الحادثة التي سعيت لمحوها من ذاكرتي قال لي «لقد أفادتني تلك الحادثة بوضعي في دائرة الاهتمام».

 

لا يمكن للإعلام المسؤول أن يدّعي الحرص على إبراز رأي ضد رأي آخر، ففي غياب المنطق عند طرف من الأطراف أو عند الطرفين، يصبح الحوار بين طرشان، وإن كان أحد الطرفين بلطجياً، ستتحول ساحة الحوار إلى مستنقع للرعاع. من هنا، فقد قررت منذ زمن طويل رفض الدخول في تجارب مماثلة، أكان لحوار بين طرشان، مهما بلغ تهذيب المحاور الآخر، وبالتأكيد الرفض يصبح حاسماً متى كان الآخر بلطجياً معروفاً بلغة «الصرماية» كما شهدنا.

 

توقفوا عن جعل الرعاع أبطالاً في الإعلام لمجرد أنهم يستدرجون الناس للمشاهدة فكما قالت جدتي «السفيه اكتفيه»!