ليس الأمر فقط أن علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني وأحد الصقور في نظام الحكم، اعتاد فهم دوره السياسي كعنصر تأزيم وتصعيد، لكن لهجته المتعالية تعكس رفضاً محيراً من المدرسة التي ينتمي إليها للنظر إلى الوقائع على الأرض في العراق، وتحليلها قبل الحكم عليها.
المناسبة هذه المرة وربما كل مرة، أن ولايتي يختار بغداد منبراً لمطالبة العراقيين بالتصدي للوجود الأميركي في شرق الفرات، قبل أن يقول إن بلاده لن تسمح بهذا الوجود! ويمضي للحديث عن صحوة إسلامية «لن تسمح» بإعادة «الليبراليين والشيوعيين إلى حكم بغداد»؟
منذ بداية العام الحالي أدلى ولايتي وعدد من صقور طهران بمئات التصريحات التي تخللتها عبارة «إيران لن تسمح»، مرة بالحديث عن لبنان وثانية عن سورية وثالثة عن اليمن وأيضاً السعودية والإمارات وقطر، قبل أن يختتم رحيم بور أزغدي المعروف بأنه «عضو المجلس الأعلى للثورة الثقافية» مهرجان التصريحات النارية بالحديث عن «إعدام بلاده صدام حسين» و «سيطرتها على 6 دول في المنطقة».
بالطبع، لاتخطئ العين السياسية الإيرانية المدربة على فهم العراقيين واستجاباتهم، تمييز مستوى الاستياء العراقي من استمرار تلك النبرة العنجهية للجار في التعاطي مع قضايا جاره، بل و «دم جاره»، ما يجعل الحديث عن «آراء شخصية» و «خلل في الترجمة» مجرد تبادل أدوار، تماماً كمثل ما يقوم به التنفيذيون «الإصلاحيون» بمواجهة حركة الاحتجاجات المطلبية الإيرانية التي تتصاعد، أو الذي يمارسه المحافظون إزاء الشكاوى العراقية المتكررة من تراخي السلطات الأمنية الإيرانية التي تتبنى «الصحوة الإسلامية» أمام خطوط نقل المخدرات التي أغرقت بلاد النهرين!.
أقنع العراق، بعد طول التباس، دول المنطقة التي طالما نظرت إليه كـ «بوابة شرقية» و «عدو إيران»، بتفهم المتغيرات التي حصلت بعد 2003، وأنه لن يتبنى مشاريع معادية لإيران، كما أن الساسة العراقيين باختلاف قومياتهم ومذاهبهم كرروا للولايات المتحدة طوال السنوات الماضية بأن العراق لايمكن أن يكون معبراً للاعتداء على إيران بأي طريقة كانت، حتى إن العراق كان كسر العقوبات الاقتصادية ضد طهران لسنوات، وساهم اقتصاده المنهار أساساً في إنقاذ الاقتصاد الإيراني قبل إبرام الاتفاق النووي وبعده.
ومع هذا لم ينجح السياسيون العراقيون الذين عاملهم ولايتي باستعلاء مهين، بإقناعه بأن مصلحة إيران قبل العراق تقتضي أن تقبل بلاده بحدود نفوذها مابعد «داعش» وألا تسعى إلى توسيع هذا النفوذ من جديد، على حساب العراق واقتصاده وجراحه ودماء شبابه المهدورة في ساحات «الجهاد الإيرانية»، بل إنهم لم يرسلوا إلى المرشد بحقيقة الأمر، كأن يقولوا له بلطف متناه مثلاً: «يا سيدنا، شارعنا لم يعد يطيقنا… شعبنا غاضب… ومراسيلك إلينا تنحت قبورنا»!.
في الغالب لن يستمع إليهم أحد حتى لو فعلوا… وبعض الشخصيات العراقية التي لطالما تمتعت بعلاقات حميمة مع مراكز القرار الإيرانية، أدركت بالتجارب المتكررة، أن تلك المراكز ومبعوثيها وسفراءها وحرسها ومخابراتها وإصلاحييها ومحافظيها، لا تريد معاملتهم إلا وفق منطق ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، كلاجئين، وجنود، وموظفين.
ربما فشل الساسة العراقيون بعد 14 عاماً من تجربة حكم بلد عملاق في المنطقة كالعراق، يتمتع بتاريخ صلب وشعب غير قابل للانصياع إلى الأجنبي، وإمكانات مادية وبشرية هائلة، في إقناع الإيرانيين، بأن يعاملوهم كحكام!، حتى أنهم فشلوا في تسويق فكرة «الحكم الشيعي الناجح للعراق» لدى القيادات الإيرانية، التي لطالما نظرت إلى العراقيين كعراقيين في النهاية، تفصل بلاد فارس عنهم حدود عام 1639 كواحدة من أقدم الحدود الرسمية في العالم، كما فهموا بطريقة خاطئة أن قوة العراق تاريخياً مصدر ضعف لإيران.
لايريد الشعب العراقي كما الشعب الإيراني أن يعيدا تجارب الماضي المريرة والدامية، وهما يدركان في عمق موروثهما الثقافي العميق أن مشاريع «الإمحاء» و «السيطرة» و «التوسع» و «عدم الاحترام» هي أوهام إمبراطورية لم تعد قابلة للتنفيذ… الشعب العراقي «لن يسمح بذلك» كما لن يسمح به الشعب الإيراني، أما المستشار ولايتي فما عليه إلا أن يستمع بهدوء إلى ما يرفض الاستماع إليه حتى الآن.