عندما اندفع المتظاهرون من حركة «طلعت ريحتكم» إلى داخل وزارة البيئة في وسط بيروت، وافترشوا الأرض يوم الثلاثاء الماضي مطالبين باستقالة الوزير محمد المشنوق، كانت أكوام النفايات تتصاعد في الساحات والطرقات، وكانت روائح الحرائق المندلعة منها تجعل من بيروت وضواحيها منطقة موبوءة تمامًا!
يقف لبنان أمام مشكلة عويصة لن تحلها المظاهرات والاعتصامات رغم أحقية المطالب التي ترفعها، خصوصا بعدما تدحرجت هذه المطالب من معالجة مشكلة النفايات، إلى الدعوة لاستقالة وزيري البيئة والداخلية، إلى إقالة الحكومة كلها.. إلى إقالة النواب ومحاسبة الطاقم السياسي من دون استثناء.
شعار «كلن يعني كلن» الذي أطلقه المتظاهرون ردًا على قيام عناصر من حزب الله بإزالة صورة السيد حسن نصر الله، التي رفعها المتظاهرون مع عدد من صور السياسيين والقادة اللبنانيين تحت شعارات تهكمية واتهامية، شكّل بداية مواجهة بين بعض الأحزاب وحركات التظاهر؛ ففي حين يقول النائب محمد رعد، وهو من حزب الله: «نريد أن نعرف من يقود المتظاهرين ويحركهم»، كان لافتًا قول وزير الداخلية نهاد المشنوق وهو من «تيار المستقبل»: «دولة صغيرة هي التي تقف وراء المتظاهرين، وهو مما دفع إحدى المتظاهرات إلى التعليق في حسابها على (فيسبوك): (لقد شوهد السفير القطري يدخل مع المتظاهرين إلى وزارة البيئة)»!
في أحد البرامج التلفزيونية سأل المذيع ضيفه من حركة «طلعت ريحتكم»: من أنتم؟ مما يشكل مؤشرًا واضحًا على أن حركات التظاهر تفتقر إلى قيادات معروفة وإلى برامج واضحة للحلول التي تعالج المشكلات المشكو منها. أما النائب ميشال عون فقد اشتبك مبكرا مع المتظاهرين عندما اتهمهم بسرقة شعاراته، مما دفع أحدهم إلى الرد عبر «تويتر»: «غدًا قد تتهموننا حتى بسرقة المتظاهرين»!
عون الذي كان قد دعا إلى التظاهر مرتين قبل أسبوعين وأصيب بالخيبة لعدم تجاوب المؤيدين له، رفع من وتيرة الهجوم على الذين يقودون المتظاهرين، عندما قال إنه مع الذين يتظاهرون بنية سليمة، لكن علامات الاستفهام هي حول من يحرك هؤلاء، وإنه خائف على لبنان من الربيع العربي «الذي كان جهنم العرب تحضيرًا للفوضى الخلاقة التي أخبرونا عنها». وفي الوقت عينه كان أحد نواب حزبه يقول إن «القائمين على مظاهرات وسط بيروت مرتزقة يعملون لدى السفارات الأجنبية، ويجب أن لا تترك الشعارات لأناس يريدون بيع قضيتهم إلى السفارات الأجنبية»!
ماذا يعني كل هذا؟
إنه يعني في بساطة أن لبنان يقف الآن أمام ثلاث مشكلات عويصة وربما قاتلة إذا انزلق الوضع إلى الفوضى، لأنه لن يكون في وسع المظاهرات والاعتصامات أن تزيل كيسًا واحدًا من النفايات التي ترتفع جبالاً في الشوارع والشتاء الجارف على الأبواب، كما لن يكون في وسعها كنس الطاقم السياسي أو إسقاط النظام كما تردد:
1- المشكلة الأولى تتمثل في طبيعة النسيج السياسي والحزبي، الذي يقوم أساسًا على الطائفية والمذهبية وعلى مفهوم الإقطاع السياسي المتجذر عميقًا في بعض البيئات، والنظام الطوائفي في لبنان وحش مفترس وقوي، وهو منخرط في هذه المرحلة المتأججة على المستوى الإقليمي في حسابات ورهانات تتجاوز موضوعًا للمطالب والمشكلات الداخلية المتراكمة إلى موضوع اصطفاف لبنان الإقليمي المفترض!
في السياق، كان الرئيس بري واضحًا عندما قال في الذكرى السنوية الـ37 لإخفاء الإمام موسى الصدر: «(حركة أمل) سبق أن انتفضت لأسباب أقل سوءًا من الحال الراهنة. وبنية صادقة أقول للمتظاهرين: (العلة في هذا النظام، وليس في ما تطالبون به عمومًا، والعلة في الطائفية والحرمان، فلا يمكن الإصلاح مع الطائفية، وأعترف أن الطائفية أقوى من إرادتي ومن إرادة مجلس النواب)».
2- المشكلة الثانية تتمثل في أن الذين يديرون المظاهرات وحركات الاحتجاج «كبروا حجارتهم» كما يقول المثل اللبناني، بمعنى أنهم انتقلوا من المطالبة برفع النفايات ومعالجة مشكلة الزبالة، إلى المطالبة بكنس الحكومة ومجلس النواب والمستوى السياسي وبمحاسبة الجميع، ولكن من دون أن يكون لديهم أي تصور واضح أو برنامج محدد أو روزنامة عمل لليوم الثاني.
والدليل أنهم حددوا 72 ساعة لاستقالة وزيري البيئة والداخلية والبدء بمعالجة مشكلة النفايات، في وقت من الواضح والمعروف أن الاستقالات لا تحل المشكلات المتراكمة والمتفاقمة التي لا يمكن معالجتها إلا بالتدرج، وإلا وقع البلد في الفراغ. ومن الواضح أن الفراغ هو الطريق السريع إلى الفوضى، التي قد تجر لبنان إلى صراعات معطوفة على الحروب الطائفية والمذهبية الإقليمية، بما يجعل منه سريعًا دولة فاشلة بامتياز!
3- المشكلة الثالثة هي أن الأحزاب الوازنة والقوى الطائفية العميقة في الحياة السياسية اللبنانية انبرت لمواجهة المتظاهرين على خلفية شعارات التعميم التي تريد محاسبة الجميع (كلن يعني كلن)، وهي لم تكتف بالتشكيك في نيات وأهداف المتظاهرين، رغم أنها نيات سليمة ومحقة وضرورية بعد زمن طويل من التمادي السياسي في التقصير والفساد والسرقات وتقاسم الحصص والمنافع، بل اتهمتهم بالعمالة للسفارات وبأن هدفهم جلب الفوضى إلى لبنان باستنساخ تجربة الربيع العربي، كما يقول ميشال عون!
وهكذا أمام انعدام المخارج وخوفًا من انزلاق لبنان إلى الفوضى الشاملة والمدمرة، ولأن النسيج اللبناني يقوم على الطائفية التي أشار إليها بري، ولأن شعارات المتظاهرين، وهم من كل الطوائف، تزعق صارخة ضد الطائفية، لكنها لن تستطيع أن تزيل مفاعيلها من المجتمع وقواعد العمل السياسي الطوائفي دفعة واحدة، بدت دعوة الرئيس بري إلى الحوار بين رئيس الحكومة تمام سلام ورؤساء الكتل النيابية بمثابة كوة في جدار بدا مقفلاً على وقوع لبنان في الفوضى.
الدعوة جاءت تحت عنوان «محاولة للتوافق ونداء استغاثة» لأنه يعرف مدى الصعوبات والعراقيل التي تواجه هذه المبادرة، موجهًا لومًا ضمنيًا صارخًا إلى الذين يعطلون عمل السلطة التشريعية رغم تمادي الفراغ في رئاسة الجمهورية، وتمادي سياسة تعطيل الحكومة وهي قطعة الحطام الوحيدة المتبقية «يتعربط» بها لبنان كي لا يغرق!
سبع نقاط للحوار هي: رئاسة الجمهورية، وعمل مجلس النواب، وعمل مجلس الوزراء، وقانون الانتخاب، وقانون استعادة الجنسية، واللامركزية الإدارية، ودعم الجيش، لكن كل هذا يطرح سؤالاً واحدًا: هل توقظ الفوضى اللبنانيين ليستقيم الحوار بين أصحاب السلطة الغارقين في الفساد والمتظاهرين الغارقين في وهم إسقاط النظام؟
ش