هل الوطن هو فقط بقعة جغرافية تجتمع فيها مجموعة من البشر؟ هل هو فقط مسقط الرأس والـمكان الذي وُلدنا فيه؟ وهل يقوم الوطن فقط على مصالـح مشتـركة بيـن أفراده ومواطنيه؟
الوطن هو الإنسان، قبل أن يكون قطعة جغرافية من الأرض، وهو الحضارة وإبداع الإنسان عبـر القرون، والمكان الذي نعيش فيه بأمان وكرامة دون قلق أو خوف أو شعور بالإحباط واليأس. صحيح أن لا وجود لوطن من دون مساحة جغرافية تحويه وتحوي الشعب داخلها، ولكن لا يقوم الوطن إذا لـم يشعر شعبه بالانتماء له والحب والعاطفة تجاهه، وما المواطنة سوى وحدة الإنتماء والولاء لكل مكوّنات الـمجتمع للوطن الذي يحتضنهم.
هل يمكن بناء وطن من دون مواطنة؟ وكيف نجعل الانتماء إلى الوطن والقانون والدولة متقدّماً على الانتماء الى العائلة والعشيرة والطائفة والمذهب والعرق؟ بمعنى آخر، كيف يمكن أن نبني إنساناً واعياً لحقوقه ومؤمناً بـوطنه وبـمبادئ العدالة والـمساواة والقيَم، وملتزماً بأداء واجباته المجتمعية والوطنية؟
لا يمكن بناءُ الفرد من دون مؤسسات تربوية راقية ومناهج تربوية متطورة، وعلى الدولة واجب وطني كبير، وهو مساعدة المدارس الرسـمية والخاصة ودعمها وتطوير برامجها، وفرض التعليم الإلزامي حتى الصفوف الثانوية، فلا دولة فاضلة دون مواطن فاضل، ولا مواطنة من دون وعي وعلم وثقافة. يقول بنجاميـن فرانكلين «الشيء الوحيد الأكثر كلفة من التعليم هو الـجهل».
إنّ مجتمعنا اليوم، أكثر من أيّ يوم، بحاجة إلى الثقافة والعلم والمواطنة، وإلى وعي المخاطر التي تهدّد وجودَه وكيانه وتقف حاجزاً أمام تطوّره وتقدّمه.
لقد ضاعت فرصٌ عديدة لم يستفد منها شعبُنا ولـم يهتدِ إلى طريق النهوض والتطوّر، والسبب الواضح هو غياب القادة والسياسيين العظماء والقامات الوطنية الكبيرة، واندثار الأحزاب الوطنية العابرة للطوائف، وضعف الهوية الوطنية والحسّ الوطني لحساب الولاءات الطائفية والمذهبية والنزعات الفئوية.
والذي زاد الطيـن بلّة، هو الإمعان فـي مخالفة الدستور والتنكّر لمندرجاته، وتأجيل الإستحقاقات الدستورية من دون أيّ عذر شرعي، ومن دون خجل أو حياء، حتى أصبح الفراغ وشلل الـمؤسسات فـي قاموس سياسيّينا وقادتنا نوعاً من أنواع الديموقراطية المتطورة التي لم يكتشفها أحد سواهم. صدَق مَن قال «إنّ الجهل ليس عذراً، بل هو أصل المشكلة».
لا يمكن أن يحصل التغيير، ولا يمكن أن تتجدّد الفرص إلّا في صندوق الاقتراع، وحده صندوق الإقتراع يحدّد مصير الدولة والشعب، ويحقّق التغيير، شرط أن يكون قانون الإنتخاب عادلاً ومتوازناً ويؤمّن التمثيل الصحيح لكل فئات الشعب، وشرط أن يكون الشعب واعياً ومُدركاً كي يـُحسن الاختيار. لقد صدق الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو حين قال «رصيد الديموقراطية الحقيقي ليس فـي صناديق الانتخابات فحسب بل في وعي الناس». فانتخابات غير مصحوبة بقانون عادل وبناخبين واعين لا قيمة لها، ولا تحقّق الأهداف الكبـرى التـي يطمح إليها الوطن.
تسع سنوات مضت على آخر انتخابات نيابية، بعدما مدّد الـمجلس لنفسه ثلاث مرات، من دون وجه حق، وحكمت طبقة سياسية، فاشلة وفاسدة بمعظمها، وهيمنت على الدولة ومقدّراتها ولـم تنجح فـي بنائها وتنظيم شؤونها، بل أمعنت فـي إضعاف قرارها وسلطتها وسيادتها على أرضها، وزادتها مديونيةً وفساداً واهتراءً، وكان قد أوصلها إلى المجلس قانونٌ انتخابي رجعي وظالـم، اعتمده الرئيس فؤاد شهاب فـي ستينات القرن الماضي، عندما كان التوازن الديموغرافي لا يزال مقبولاً، ومرسوم التجنيس غائباً وغير موجود إلّا فـي عقول بعض النفوس المريضة التـي تهمّها جيوبها أكثر ممّا يهمّها الوطن.
فـي 16 حزيران 2017، وبعد مخاض دام نحو تسع سنوات، مدّد مجلس النواب لنفسه 11 شهراً للمرة الثالثة، وأقرّ القانون الانتخابي الجديد الذي نقل لبنان من عهد «الستين» والنظام الأكثري إلى عهد «النسبية الـملبننة» التـي تغنّى بها معظم قادتنا وشعبنا من دون أن يعرفوا معناها ولا أبعادها وتداعياتها.
وفي وقت لم يجفّ فيه حبر تصديق القانون الإنتخابي الجديد تفاعلت الدعوات لإدخال تعديلات عليه، واعترف الجميع، بمَن فيهم «طباخوه»، أنه قانون معقّد وفيه الكثير من الثغرات والعورات التـي تحتاج إلى إعادة نظر، وحتى الرئيس نبيه بري الذي كان يعارض إجراءَ أيّ تعديل فـي القانون، أيقن أخيراً أنه يشكّل خطراً على لبنان.
كل واحد أراد «النسبية» على ذوقه وعلى قياسه، فـ»فبركوا» قانوناً هجيناً لا يصلح لمجتمعنا الـمُنقسم والمفتّت ولا لتركيبتنا العشائرية والطائفية والمناطقية، وحوّلوا الحلفاء إلى أخصام، ورفاق اللائحة الواحدة إلى أعداء، يتناتش كل واحد منهم «صوتاً تفضيلياً» يفضّله على رفيقه ويؤهّله للفوز عليه قبل الفوز على أخصامه.
هل سيَسمح لنا قانون الانتخاب الجديد، وفي غياب الوعي والمحاسبة، بتغيير القوى والأحزاب التي سيطرت على مقدّرات الدولة وشؤونها وتشريعاتها منذ عام 2005، والتي حوّلت البلاد إلى مزرعة سائبة ينهشها الفقر والمديونية ويعيش فيها كل أنواع الفساد والـمفسدين؟
هل ستسمح لنا الإنتخابات أن نحلم بـمجلس نيابي مُنسجم وفاعل يحقّق إصلاحات وتعديلات دستورية، تُتيح تداول السلطات الشرعية فـي مواعيدها، بسلاسة وهدوء ومن دون فراغ وشلـل ولا مشكلات؟
هل ستسمح لنا الانتخابات أن نحلم بمجلس يحقّق اللامركزية الإدارية الموسّعة، ويعيد النازحين السوريين إلى بلادهم، ويوقف الهدر ويجتثّ الفساد من كل مفاصل الدولة، ويوقف العجز في مالية الدولة ويضبط سقف المديونية العامة؟
هل ستسمح لنا الانتخابات أن نحلم بمجلس يضع الخطط والبرامج التربوية والوطنية لخلق مواطن واعٍ ومثقف يؤمن بوطنه قبل طائفته وشيخ قبيلته، ويناضل من أجل العلمنة وإلى إقرار قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية، وإلى إلغاء الطائفية من النفوس والنصوص؟
هل ستسمح لنا الانتخابات أن نحلم بوطنٍ خالٍ من أيّ سلاح غير شرعي، وطن نظيف وآمن ومستقرّ ومزدهر، يحافظ على شبابه المثقّف ولا يحوّلهم إلى مشروع هجرة دائم؟
تحدّيات كبيرة وصعوبات كثيرة تواجه المجلس النيابي الجديد والحكومة التـي ستنبثق منه، وصعوبات أكبر إقتصادية ومعيشية ستواجه شعبنا، ولكننا لن نفقد الأمل ولن نيأس ولن نستسلم، فنحن أبناء الرجاء ونؤمن أنّ الوطن شجرة طيبة لا تـنمو إلّا في تربة التضحيات وتُسقى بالعرق والدم.