تتكشّف الفضائح العراقية بشكل يومي. لم يعد مطروحاً سوى سؤال واحد: هل في استطاعة رئيس الوزراء الجديد الدكتور حيدر العبادي اصلاح ما افسده رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي امضى ثماني سنوات في السلطة على رأس حكومتين؟
هل يمكن لسياسي عراقي اعادة العراق إلى العراقيين، علماً أنّه ينتمي إلى حزب ذي طابع مذهبي معروف؟ يقدّم الحزب الانتماء المذهبي على كلّ ما عداه، بما في ذلك الانتماء للعراق؟
إلى الآن، صدرت عن العبادي سلسلة من الإشارات المشجّعة التي تعكس رغبة في تغيير الوضع نحو الأفضل. المشكلة أنّ هذه الإشارات لم تحل دون ارتكاب الميليشيات الحزبية التي تقاتل مع جيش النظام مجازر في حقّ المواطنين السنّة في مناطق معيّنة غير بعيدة عن بغداد. إنّها مناطق أُمكن استعادتها من «داعش» الذي لم يجد صعوبة كبيرة في الاستيلاء على مساحات واسعة مستفيداً من حاضنة شعبية وفرّها الظلم الذي الحقته حكومتا المالكي بأهل السنّة.
قبل كلّ شيء، تجرّأ رئيس الوزراء العراقي على الحديث عن جيش وهمي من خمسين الف عنصر يقبضون رواتبهم. سُمّي هؤلاء بالجنود «الفضائيين»، أي أنّهم كانوا مجرّد جنود وهميين يتقاضون رواتب لأسباب حزبية لا اكثر. هل يعتبر ذلك كافياً كي يكون هناك جيش عراقي يمتلك حدّاً أدنى من الولاء الوطني، بدل الولاء للطائفة والمذهب ولمنطق معيّن يقول بضرورة هيمنة الأحزاب المذهبية على السلطة؟
اضافة إلى ذلك، أجرى العبادي عملية تطهير في وزارة الداخلية شملت أربعة وعشرين موظّفاً كبيراً فيها. هذا لا يكفي اذا أخذنا في الاعتبار أنّ وزير الداخلية الجديد نفسه ينتمي إلى مجموعة مذهبية لديها ميليشيا خاصة بها لا تؤمن بالعراق كوطن لجميع العراقيين بغض النظر عن الطائفة والمذهب والقومية والمنطقة…
هناك نيّات حسنة تبدر عن العبادي، بما في ذلك الرغبة في مدّ الجسور مع الدول العربية، على رأسها المملكة العربية السعودية. ولكن، يبقى هل في استطاعة رئيس الوزراء العراقي ان يكون على مسافة معيّنة من ايران، أم أنّ كلّ ما يسعى اليه فعلاً هو التظاهر بأنّ شيئاً ما تغيّر في العراق، في حين أن الواقع مختلف. هذا الواقع يتمثّل في أنّ ايران ما زالت هي المسيطر على العراق، أقلّه على القرار الحكومي، بدليل أنّ الميليشيات الحزبية تقاتل إلى جانب الوحدات التابعة للجيش بإشراف خبراء وضباط ايرانيين.
ما يشير أيضاً إلى أنّ الأمل ليس مقطوعاً من العبادي الاتفاق النفطي الذي أمكن التوصل إليه مع الحكومة في اقليم كردستان. يبدو الاتفاق منصفاً إلى حدّ كبير. ولكن هل الاتفاق ثمن دفعته الحكومة العراقية من أجل تحييد الأكراد موقتا من جهة والانصراف إلى حربها على السنّة العرب من جهة أخرى؟
وحده الوقت سيكشف ما إذا كانت هناك نيّة جدّية في التخلص نهائياً من التركة الثقيلة لنوري المالكي ومن خلفه ايران. وحده الوقت سيكشف ما إذا كان حيدر العبادي، وهو قيادي في حزب «الدعوة الإسلامية» يختلف في شيء عن سلفه.
ما يدعو إلى التشكيك في كلّ تصرفات العبادي الحاجة العراقية والإيرانية في آن إلى استرضاء الأميركيين كي يتابعوا حربهم على «داعش». من الواضح أن القوات العراقية ومعها الميليشيات الحزبية ليست قادرة على خوض حرب رابحة مع «داعش». لا يمكن تحقيق أيّ تقدّم على الأرض من دون الأميركيين والتحالف الدولي الذي يعملون في اطاره والذي يضمّ عدداً لا بأس به من الدول العربية. قرّرت هذه الدول المشاركة في الحرب على الإرهاب، ولكن من دون أن تكون لديها أيّ أوهام في شأن النيات الإيرانية والمشروع التوسّعي الإيراني على حساب كلّ ما هو عربي في المنطقة. هناك مخاوف عربية حقيقية من أن تكون الولايات المتحدة على استعداد مرّة أخرى لخوض حروب تصبّ في مصلحة ايران.
في الذاكرة العربية الحرب الأميركية على العراق في العام والتي لم يخرج منها سوى منتصر واحد هو ايران. كانت ايران شريكاً اساسياً في تلك الحرب التي انتهت لمصلحة ايران. دفع الأميركيون ضريبة الدمّ من أجل التخلّص من نظام عائلي ـ بعثي كان مطلوباً التخلص منه، فيما لم تخسر ايران جندياً واحداً.
كان مطلوباً التخلص من النظام العراقي الذي أخذ البلد من كارثة إلى أخرى وذلك من أجل قيام عراق ديموقراطي بالفعل وليس من أجل عراق تتحكّم به الغرائز المذهبية ويقع قسم منه، بما في ذللك بغداد، تحت سيطرة النظام الإيراني…
ما يدعو أيضاً إلى التشكيك ويثير المخاوف أنّ لا تغيير جذرياً في العراق حيال الموقف من النظام السوري. كان الموقف من النظام السوري نقطة تحوّل في مسيرة نوري المالكي. انتقل الأخير من مندّد ببشار الأسد وتصرفاته الداعمة للإرهاب في العراق، إلى مؤيّد له بعد اندلاع الثورة الشعبية في سوريا في العام .
لم يكن ذلك سوى دليل على مدى النفوذ الإيراني في العراق ليس إلّا. بقدرة قادر صار العراق يدعم نظام الأسد بالمال والسلاح والميليشيات وذلك من منطلق مذهبي بحت فرضته طهران على بغداد.
يمكن أن تكون لحيدر العبادي كلّ الرغبة في حصول تغيير في العراق وصولاً إلى قطيعة مع ممارسات نوري المالكي الذي ساعد في وصول «داعش» إلى الموصل وتكريت وازالة الحدود بين سنّة العراق وسنّة سوريا. هذا أمر لا يمكن تجاهله. ولكن، هل تسمح له شخصيته وتربيته الحزبية بذلك؟ هل تسمح له ايران بذلك؟ هل يحصل التغيير العراقي المطلوب تجاه احداث سوريا كي يمكن القول إنّ العبادي شيء والمالكي شيء آخر؟
من الصعب الإجابة عن مثل هذا النوع من الأسئلة. الثابت إلى الآن أن الرجل يحاول. ولكن يفترض أن تكون هناك ادارة اميركية تساعد في حصول التحوّل العراقي. وهذا يعني في طبيعة الحال ولادة قناعة في واشنطن بأن لا حرب ناجحة على «داعش» من دون تغيير في الذهنية التي تتحكّم بالحكومة العراقية وأهل السلطة في بغداد من جهة والتصرف من منطلق أن النظام السوري و»داعش» وجهان لعملة واحدة من جهة أخرى.
متى تتولّد هذه القناعة يصبح في الإمكان الرهان على حيدر العبادي وعلى امكان تشكيل جيش عراقي ولاؤه للعراق أوّلاً، بدل أن يكون جيشاً مسانداً للميليشيات الحزبية التي تتلقّى اوامرها من طهران وليس من أيّ مكان آخر…