إكتشفَ رئيس الحكومة سعد الحريري أنّ «التريّث» كنزٌ لا يَفنى. وهكذا، سارت الأزمة تماماً وفق ما توقَّع العارفون، على رغم الغبار والضوضاء الطبيعية والمفتعلة، وهدأت «الزوبعة» في «الفنجان» اللبناني. ولم يكن في الإمكان أفضلُ ممّا كان. والآن إلى أين؟
طُويَت الأزمة وانصرَف المعنيون إلى مراجعة حسابات الأرباح والخسائر، واستخلاص الدروس:
قبل أزمة الاستقالة، كان «حزب الله» منتصراً نسبياً. وكان رئيس الجمهورية ميشال عون يحاول إثباتَ قوّته تجاه «أقطاب كليمنصو»، فيما رئيس مجلس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط مرتاحان. ولكن، في الصفّ السياسي المقابل، كان الحريري محشوراً في سلوك نهجٍ سياسي يقوده «حزب الله»، فيما «القوات اللبنانية» مستاءة منه ومن الحكومة إلى حدّ التلويح بالاستقالة.
أزمة الاستقالة بدَّلت معادلة الربح والخسارة: «حزب الله» حقَّق انتصاراً كبيراً بإنهاء أزمة الاستقالة من دون أن يقدِّم أيّ تنازل حقيقي. فالوعد بـ«النأي بالنفس» وعدم المشاركة عسكرياً في الحرب اليمنية لا يكلِّفه شيئاً يُذكر.
واستطاع «الحزب» استيعابَ الحريري بإعطائه أوراقاً قوية يُطَمْئن بها السعوديين. والحشدُ الجماهيري السنّي الذي غمرَه بالتعاطف في «بيت الوسط» بدا وكأنّه، للمرّة الأولى، يوجّه الرسائل المبطّنة إلى السعودية ويحيِّد إيران و«حزب الله» و»سرايا المقاومة». وظهَّر «الحزب» نفسه في موقع الحرص على الوفاق والاستقرار.
إذاً، انتقلَ «الحزب» من موقع المنتصر نسبياً إلى المنتصر في شكل مطلق. ومعه برَز موقع عون كرئيس للجمهورية يمارس الدور السياسي الأوّل في الحكم والدور التوفيقي الاستيعابي، من دون تقديم تنازلات سياسية. وفي لحظات، تَذكّر المراقبون صورةَ الرئيس «الكامل الصلاحيات» في مرحلةِ ما قبل «إتفاق الطائف».
وبروز عون لم يأخذ من طريق بري وجنبلاط اللذين كانا مرتاحَين إلى أن التطوّرات أظهرت عدم وجود بدائل لـ«روحية كليمنصو». وفي الموازاة، ربحَ «التيار الوطني الحر» عودةَ الشراكة مع الحريري حول الملفات و«النفط أولاً».
لقد أدّت الأزمة إلى تقوية «حزب الله» وحلفائه ونهجِهم في إدارة البلد. ولكنّها أيضاً قدّمت لشخص الحريري خدمات كبيرة. ففي خلال الأزمة، ارتفعت شعبيتُه «أسطورياً»:
سنّياً، استطاع الرَجل أن يضبط الارتجاجات التي كانت قائمة داخل «المستقبل». وهو استعاد تقريباً شعبيتَه التي خسرها تدريجاً منذ 2005. وبات اليوم القطبَ الأوّل المرشّح لرئاسة أيّ حكومة مقبلة، بفارقٍ شاسع عن منافسيه المفترضين، بعدما كان هؤلاء قد تقدّموا إلى منزلة قريبة منه. وتالياً، بات الحريري الخائفُ من الانتخابات النيابية أكثرَ اطمئناناً إليها.
فوق ذلك، اكتسبَ الحريري تعاطفاً لدى الشيعة. وبَرز تعاطفٌ شعبي مسيحي معه. فالمسيحيّون، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، يتأثّرون عادةً بعنوان «السيادة الوطنية».
الاستناج هو أنّ جميع الذين هم في السلطة رابحون، ما عدا «القوات اللبنانية» التي جاء مسار الأزمة ليعيدَها إلى إحراجها. فهل تبقى في الحكومة شاهِد زورٍ على مسار «التطبيع» المتسارع مع نظام الرئيس بشّار الأسد، ومع إدارة البلد بمنطق الصفقات لا المؤسسات، كما كان يقول وزراؤها قبل الأزمة؟
مصادر «القوات» تحاول الحديثَ عن مهلة أسبوعين أعطاها الحريري لـ«حزب الله» لكي يلتزم التعهّدات جدّياً لا شكلياً، تحت طائلة الاستقالة جدّياً ونهائياً. وهذه المرّة سيكون السعوديون أشدَّ إصراراً على عدم التراجع!
هنا يصبح على الحريري، وعلى السعوديين خصوصاً، أن يثبتوا ما إذا كانوا قد تخلّوا عن كلّ سيناريوهات التصعيد لمصلحة المسار التسووي، أياً كانت جدّية «حزب الله» في النأي بالنفس، أم إنّ العاصفة ستهبّ مرّة ثانية، ولن تكون عابرة، بل حقيقية وغيرَ قابلة للتطويق أو المهادنة أو المماطلة.
هذا الاحتمال يَدرسه جميع المعنيين، حتى في العواصم التي تدخّلت أخيراً لإنهاء الأزمة.
لكنّ المراجع المطّلعة تؤكّد أن لا مجال لتكرار صدمة الاستقالة وفقاً للسيناريو السابق لسببين: أوّلاً، لأنّ «حزب الله» سيُظهِر التزامَه التعهّدات. وثانياً لأنّ أيّ صدمة مقبلة لن تكون نتائجها مغايرةً للنتائج التي وصلت إليها الأزمة السابقة.
علمياً، إستعادة العناصر نفسِها في الظروف نفسِها، تقود حتماً إلى النتائج نفسِها. لذلك، إذا كرَّر السعوديون الطلبَ من الحريري فجأةً أن يذهب إلى الرياض، وأن يعلن استقالته من هناك كما في المرّة السابقة، فسيجدون أنفسَهم أمام خيارين: إمّا المغامرة باستقرار لبنان السياسي والأمني والاقتصادي في شكلٍ خطِر جداً، وإمّا فتحُ البابِ للوسَطاء لكي يعيدوا الأمورَ إلى حالها، وهو ما حصَل أخيراً.
وفي أيّ حال، لا السعودية ترغَب في المغامرة باستقرار لبنان ولا القوى الدولية والإقليمية تسمح بذلك. ولكن، بالتأكيد، لن يكون «حزب الله» حرّاً بعد اليوم في التحرّك عسكرياً في اليمن. فالقوى الضامنة للتسوية الأخيرة ستضمن أيضاً هذا الطلب للسعوديين.
وكان لافتاً أمس كلام الأمين العام لتيار «المستقبل» أحمد الحريري عن «الواقعية السياسية». فهو أشار إلى معطيات إقليمية على اللبنانيين أن يأخذوها في الاعتبار، وهي أنّ القوى الدولية تتعاطى بواقعية مع إيران. وقال: «إنّ التحالف الدولي يشارك إيران في ضربِ الإرهاب في سوريا، وهو نسّقَ معها لمعالجة الملف الكردي في العراق. فهل يجوز أن نتعامى عن هذه المعطيات ومدلولاتها؟».
إذاً، مرّةً أخرى يتأكد أنّ الحريري العائد إلى بيروت ليس هو نفسه الحريري الذي ظهر في «فيديو الاستقالة». وهو بالتأكيد مرتاح إلى أنّه حقَّق، عن غير قصد، وخلال أسبوعين من الأزمة، دعماً شعبياً وسياسياً عجِز عن تحقيقه طوال 10 أشهر من وجوده في السراي الحكومي.
لقد كانت العاصفة مفيدةً لكثيرين، من حيث لا يريد الذين افتعلوها أو من حيث لا يدرون. وهؤلاء المستفيدون سيتمسّكون بإنجازاتهم في المرحلة المقبلة، ولن يتخلّوا عنها.
وهنا يصبح السؤال عن الانتخابات النيابية أكثرَ إلحاحاً: هل يتوافق المستفيدون على إجرائها، واستثمار الزخم الشعبي والسياسي في ذروته، وتقاسمِ المكاسب على حساب القوى الأخرى؟