في 2016، أُبرمت «التسوية» الرئاسية التي أوصلت «ميشال عون إلى قصر بعبدا، وسعد الحريري إلى السراي الحكومي». قبلها كثيرون من البيت الواحد ورفضها آخرون من البيت نفسه، لكن في تلك اللحظة قال مبرمو هذه التسوية بحزم «ما كُتِب قد كُتِب».
إرتكزت هذه التسوية على ثقل قوى أساسية، الثنائي الشيعي و«التيّار الوطنيّ الحرّ» من جهة، و«القوات» و«المستقبل» و«الاشتراكي» من جهة أخرى. أما اليوم، فقد أصبح «المستقبل» خارج هذه التسوية، والقوى الاساسية الثلاث التي شكلت الدعامة الاساسية لها ابتعدت عن رئيس الجمهورية. والأحداث الأخيرة على مستوى التكليف واحداث الشارع توحي بأنّ الأمور تجاوزت التسوية وأصبحت في مكان آخر.
هذا الواقع يفرض أسئلة عدّة بدأ يطرحها المراقبون السياسيون، فبعد تسمية حسان دياب وإصراره على عدم «الاعتذار»، في ظلّ الشارع السني الغاضب، ومراهناً على الحصول على رضى دار الفتوى في التأليف الحكومي عبر تأمين الميثاقية المرجوة، كيف سيتبلور موقف تيار «المستقبل» امام هذه التبدلات في المشهد السياسي؟ هل سيبقى يراهن على إسقاط «التأليف» قبل إتمامه؟
وفي حال استطاع دياب تأليف حكومة حازت الثقة السياسية، هل سيتبدّل اتجاه «بندقية» تيار «المستقبل» في «القنص السياسي»، من السراي الحكومي نحو قصر بعبدا، أم سيقبل الحريري دفع ثمن خروجه من الحكم مقابل خروج الوزير جبران باسيل؟ وبالتالي في لغة الأحجام، هل سيقبل «رئيس المستقبل» ان يكون في ميزان القوة بحجم وزير في حكومته أم رئيس في قصر بعبدا او عين التينة؟
هي التسوية المحاصصة التي يدفع ثمنها الحريري اليوم وجميع اللبنانيين كما تقول مصادر في القوى المصنّفة سيادية لـ«الجمهورية». فالتسوية على المواقع والحصص لا تصحّ، بل يجب أن تُبنى على المبادئ، وما حصل في 2016 كان خلافاً لكلّ القيم والأصول والمبادئ، وهو ما ندفع ثمنه اليوم، وهو ما قد يفجّر الوضع في المستقبل.
ويستشهد بقاعدة شرعية تقول «من ترك أمراً من أمور الشرع أحوجه الله إليه»، والشرع هنا هو الدستور، وبالتالي كان على رئيس الجمهورية أن يزن الامور بميزان من ذهب، فهو فوق كلّ السلطات وينبغي ان يكون بعيداً عن المغانم والحصص، وكل البلد يكون له وهو يلمّ شمل جميع اللبنانيين، لذلك هذه التسوية كانت خطأ منذ الأساس.
وفيما يتردد أن مصير التسوية سيُبتّ وفق ما ستؤول إليه عملية التأليف، يلقي الوضع المالي والاقتصادي المأزوم بثقله على المسار السياسي. وفي التشخيص السياسي، فإنّ رئيس الجمهورية قرّر ان يذهب بالتكليف خارج إطار القوى الاساسية التي شكلت ركيزة التسوية، وهذا التكليف أتى من جهة واحدة وهي «الثنائي الشيعي» والعهد، فيما الفريق الآخر، أي «المستقبل» و«القوات اللبنانية» والحزب التقدمي الاشتراكي اقتنع بأن هناك عاملاً جديداً استجدّ وهو دخول الانتفاضة على المشهد السياسي، فيما العهد ابتعد عن نبض الناس الذين يريدون تشكيل حكومة بعيدة عن القوى السياسية.
هذا الواقع خلق جوّاً جديداً والمرتكزات التي استندت اليها التسوية اختلفت. ففي الأساس، تعرضت هذه التسوية لاهتزازات، بفعل عدم الالتزام بشروطها الاساسية، وهي أولًا عنصر تحييد لبنان عن نزاعات الخارج، وثانياً عنصر اكتمال بناء الدولة الذي لا يحصل في الشكل المطلوب، والدليل دخول لبنان في فصول الانهيار، فيما النأي بالنفس لم يُحترم في الشكل المطلوب، وهذا ما يفسر الانتكاسات التي حصلت للتسوية.
اليوم، وكما تقول مصادر «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية» «نحن في مرحلة جديدة عنوانها تشكيل حكومة من لون واحد، وهذا التشكيل ينذر بمخاطر كبرى، علما أنّ الركيزة الاساسية لتحسين الوضع المالي والاقتصادي هي الثقة، وهي مفقودة مع هذه الطبقة السياسية التي شكلت سابقاً إحدى ركائز «التسوية»، وبالتالي، فإن الحكومة العتيدة التي ستتشكل ستكون محكومة بخطيئة أصلية اذا تشكلت من لون فريق واحد». وتضيف: «لذا فإن السؤال: هل التأليف سيكون على غرار التكليف من لون سياسي واحد؟ وهل التأليف سيكون على غرار التأليف السابق، أي ان القوى السياسية ستسمي وزراءها في الحكومة. فاذا سلكت الأمور طريقها بهذا المنحى، فإن الحكومة محكومة بالفشل. لأن الادارة السياسية التي اوصلت لبنان الى الفشل ستستمرّ في إيصاله الى الفشل مجدداً، خصوصاً انّ المشكلة ليست في استبدال وزير سياسي بوزير تكنوقراط، بل المشكلة أن الإدارة السياسية تبدّي اولوياتها الذاتيّة والحزبيّة على الوطنية».
وفيما تشدد «القوات اللبنانية» على انّ المخرج لا يكون إلّا من خلال حكومة اختصاصيين مستقلين بعيدة عن القوى السياسية ضمن مرحلة انتقالية تستطيع قيادة لبنان الى شاطئ الامان، يترقب كثير من اللبنانيين في الأيام المقبلة كلاماً جريئاً من سعد الحريري أسوة بحليفه سمير جعجع الذي أعلن أنّ «التسوية سقطت حكماً بعد نزول اللبنانيين إلى الشارع في المناطق كافة».