تزيّن لوحة جدارية رائعة الجناح الرئيسي للقصر الملكي في مدينة أصفهان الإيرانية، حيث يتجسّد فيها رسم لمعركة تشالديران التي تعود إلى القرن السادس عشر، وقد جرت بين الإمبراطوريتين التركية العثمانية والفارسية الصفوية. يبدو أنّ اللوحة الجدارية تُظهر الجيش الفارسي منتصراً، بعد أن سحق خصمه التركي. لكنّ حقيقة ما ترمز اليه هذه الجدارية هي انتصار حاسم للعثمانيين، الذين أرادوا ضمّ شرق الأناضول وشمال العراق. يصرّ الإيرانيون على التشويه التاريخي الذي يخدم كبرياءهم فيجعلوا من الهزيمة انتصاراً، بل إنهم يفاخرون بالشجاعة والبطولة التي قاوموا بها عدوّاً تفوّق عليهم بالعدد ونوعيّة السلاح.
يجب على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن تستخلص الدروس والعِبر من هذه الجدارية الفنّية كثيرة الرموز والدلالات حول مفاهيم الربح والخسارة لدى الإيرانيين.
لقد مر عام على تخلّي ترامب عن الاتفاق النووي الذي وُقّع عام 2015 وأدى إلى تراجع الأنشطة النووية الإيرانية ووضعها تحت نظام التفتيش الدولي الأكثر صرامة قبل أن تفرض واشنطن على إيران أحد أكثر أنظمة العقوبات قسوة يمكن أن تفرض على أيِّ خصم، وقد أدرجت وزارة الخزانة الأميركية ما لا يقل عن 1000 من الكيانات والأفراد الإيرانيين على اللائحة السوداء، واستهدفت كل قطاعات الاقتصاد الإيراني تقريباً.
لا شك في أنّ سياسة «الضغط الأقصى» للإدارة الأميركية تلحق الضرر الاقتصادي الكبير بإيران ما أفقد العملة الإيرانية ثلثي قيمتها، وانخفضت صادرات النفط إلى معدلات غير مسبوقة. وعلى رغم من أنّ الغذاء والدواء معفيّان من العقوبات، فإنّ عزل إيران عن النظام المالي العالمي يؤدي إلى أزمة إنسانية، حتى إنّ بعض العائلات باتت محرومة من تناول اللحوم منذ أشهر وتعاني من نقص في الأدوية الأساسية.
مع ذلك، لم نلمح حتى الآن أيَّ مؤشر الى أنّ سياسات إيران الإقليمية تتغير أو أنّ قادتها على استعداد للعودة إلى طاولة المفاوضات والاستجابة لمطالب إدارة ترامب. ولم تظهر في الأفق أيّ إشارات بأنّ الضغوط الاقتصادية قد تؤدي إلى اضطرابات شعبية تهدّد بقاءَ النظام.
يبدو أنّ هناك اعتقاداً راسخاً لدى صانعي القرار في الولايات المتحدة، بأنّ إيران لن تستسلم إلّا لضغوط هائلة، وهي نقطة لم تصل اليها بوضوح. مع الانتخابات الرئاسية المقررة في الولايات المتحدة في نهاية السنة المقبلة، تصعّد الإدارة الأميركيّة بسرعة وتيرة العقوبات من خلال خطوات غير مسبوقة شملت تصنيف الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية وقلّصت صادرات النفط الإيراني إلى الصفر بين ليلة وضحاها، حسب التقارير الاميركية.
لكنّ ثلاثة عوامل رئيسة قد تُفقد سياسة الولايات المتحدة فاعليتها حيال ايران:
ـ أولاً، تبدو ايران حتى الآن مستعدة لتحمّل العقوبات عوضاً عن رفع الراية البيضاء وهي تدرك انّ فريق الأمن القومي الخاص بترامب يريد إسقاط الجمهورية الإسلامية، وتعتبر قيادتها أنّ العقوبات الاقتصادية مجرد خطوة من ضمن مجموعة من التدابير الرامية إلى زعزعة استقرارها. لذلك تعتمد استراتيجيّة مضادة تُختصر بكلمتين: المقاومة والبقاء على قيد الحياة. وتقول إنّ مجرد البقاء على قيد الحياة سيشكل انتصاراً مهما كانت الفاتورة باهظة. فلا الحصار ولا المعاناة الاقتصادية الطويلة أمر جديد بالنسبة الى حكّام إيران أو لشعبها. لقد سبق أن شهدوا نصف عائدات البلاد النفطية تتبخّر خلال الحرب الإيرانية ـ العراقية في الثمانينات، ومرة ثانية خلال الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997، ومرة ثالثة نتيجة للحظر النفطي الأوروبي والعقوبات الأميركية عام 2012. وهذا يعكس براعة إيرانية في الالتفاف على العقوبات والحفاظ على الدولة، وعلى المجتمع واقفاً على قدميه.
ـ ثانياً، تجد طهران نفسها مضطرة إلى الإثبات لصانعي السياسة في الولايات المتحدة إفلاس نظرياتهم بأنّ الضغط الشديد يمكن أن يجبرها على الخضوع. في عام 1988، أعلن روح الله الخميني على مضض أنه «سيشرب من الكأس السامة»، ووافق على وقف إطلاق النار مع العراق. ولكن عندما صمتت المدافع، وبعد مئات الآلاف من القتلى والمصابين تمكنت إيران من ترسيخ حكم الجمهورية الفتية من دون أن تفقد مساحة من الأراضي. تمّ تطبيق منطق مشابه في عام 2003، بعد الغزو الأميركي للعراق، ضغطت طهران على زر التوقف الموقت للبرنامج النووي السري، خشية من أن تصبح الهدف التالي لتغيير النظام.
ـ ثالثاً، لن تتفاوض ايران مع واشنطن ما لم تكن تعلم أنّ لها يداً قوية نسبياً. على سبيل المثال عندما دخلت في مفاوضات جادة مع الولايات المتحدة عام 2012، اكتسبت نفوذاً كبيراً، تمثّل بآلاف أجهزة الطرد المركزي النووية، طن من اليورانيوم منخفض التخصيب، منشآت تخصيب اليورانيوم ومفاعل يعمل بالماء الثقيل. وها هي تحرّك حلفاءها الحوثيين و«حزب الله» لزعزعة الاستقرار الاقتصادي في الخليج، وما ضربات سفن الفجيرة ومهاجمة انابيب النفط السعودية إلّا رسائل ستستخدمها على طاولة المفاوضات مستقبلاً لرفع العقوبات مقابل الاستقرار في الخليج.
في المقابل ثمّة مَن يجد انّ ايران تلعب كل أوراقها على شفير الهاوية وبالتالي إذا استمرت في التخلي عن التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، فسترد الولايات المتحدة وإسرائيل باستهداف البرنامج النووي الإيراني، وعندها ستلعب ايران اوراقها بإطلاق يد حلفائها في المنطقة لاستهداف الغرب.
يبدو السباق محموماً بين نهج ترامب المتسارع في التصعيد وحشد قواه في بحر الخليج من جهة ورهان ايران على خسارة ترامب على المدى الطويل من خلال نهجها الذي يعتمد على النفس الطويل من جهة أخرى. لا يختلف اثنان على انّ ايران بلد يعاني اقتصاده من الخراب إلّا انّ نظامه قوي وقادر على الصمود بعد، وهو يتطلع إلى أن يقتنع ترامب بضرورة الخروج من المواجهة المتصاعدة إلى مفاوضات رابحة.