يقول سفير لبناني سابق إنه ليس المهم التوصل الى توقيع اتفاقات ومعاهدات بين الدول، إنما الأهم هو التوصل الى تطبيقها تطبيقاً دقيقاً وكاملاً، وهذا يتطلب إرادة صادقة ونيّة حسنة. فكم من الاتفاقات والمعاهدات وقعت ولم يتم الالتزام بتنفيذها فكانت الحروب. ومن هذه المعاهدات المهمة معاهدة “فرساي” التي سدلت الستار على وقائع الحرب العالمية الأولى وقد تمّ توقيعها عام 1919 في قصر فرساي، ثم صار تعديلها عام 1920 وتمخض عنها تأسيس عصبة الأمم للحيلولة دون وقوع صراع مسلح بين الدول كالذي حدث في الحرب العالمية الأولى. ونصت المعاهدة على أشد الضوابط والقيود على الآلة العسكرية الالمانية لكي لا يتمكن الالمان من اشعال حرب ثانية. وعلى رغم خفض الرقم الكلّي لتعويضات الأطراف المتضررين من الحرب وتحميل المانيا مسؤولية دفعها، فان الديون التي أثقلت عاتق المانيا وأعاقت عجلة اقتصادها سببت امتعاضاً شعبياً أدى الى اشعال الحرب العالمية الثانية على يد المستشار الالماني أدولف هتلر الذي مزق معاهدة “فرساي” وأعلن الحرب.
والجميع يذكر ما آل اليه اتفاق أوسلو بين الاسرائيليين والفلسطينيين وما تبعه من اتفاقات ظلّت من دون تنفيذ، لأن ليس في نيّة اسرائيل الانسحاب من كل الأراضي الفلسطينية التي تحتلها، ولا التخلي عن القدس الشرقية لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية، بل تريد كل القدس عاصمة لاسرائيل، كما أنها لا تريد عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم ولا حتى إقامة دولة لهم إلا بشروط تجعلها غير قابلة للحياة. فاذا كانت اسرائيل لم تحترم القرارات الدولية وتنفذها فهل يعقل أن تحترم أحكام الاتفاقات وتلتزم تنفيذها؟ ثم كم من الاتفاقات عقدت مع لبنان ولم تنفذ تنفيذاً دقيقاً كاملاً لأن الطرف الأقوى الموقع عليها رفض أو عرقل ذلك. فميثاق 1943 غير المكتوب ظل البند المهم فيه وينص على “لا شرق ولا غرب” من دون تنفيذ، ما جعل الساحة اللبنانية مفتوحة لصراعات كل المحاور العربية والاقليمية والدولية. و”اتفاق القاهرة” الذي وقع بهدف حماية ما تبقى من سيادة الدولة اللبنانية لم يحقق هذا الهدف لأن الفصائل الفلسطينية المسلحة أبت إلا أن تكون هي الدولة داخل الدولة. واتفاق 17 أيار الذي كان هدفه تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي كي يستعيد لبنان سيادته على كل أراضيه، ربطت اسرائيل فجأة انسحابها بانسحاب القوات السورية من لبنان، فكان هذا الشرط كافياً لامتناع لبنان الرسمي عن توقيعه على رغم موافقة الحكومة عليه. و”اتفاق الطائف” الذي اصبح دستوراً للبنان لم ينفذ هو أيضاً تنفيذاً دقيقاً كاملاً لأن الوصاية السورية على لبنان لم يكن لها مصلحة في تنفيذه كاملاً لأن تنفيذه يقيم الدولة القويّة في لبنان القادرة على بسط سلطتها وسيادتها على كل أراضيها بقواتها الذاتية ودونما حاجة الى الاستعانة بأي قوّة مستعارة، فأدى ذلك الى عدم قيام هذه الدولة والى بقاء الوصاية السورية على لبنان ثلاثين عاماً.
أما عن الاتفاقات المعقودة بين لبنان وسوريا في ظل هذه الوصاية فحدّث ولا حرج. فما من اتفاق معقود بين البلدين تم تنفيذه تنفيذاً دقيقاً كاملاً، وما صار تنفيذه منها كان لمصلحة سوريا، وما هو لمصلحة لبنان لم ينفذ لا سياسياً ولا أمنياً ولا اقتصادياً، حتى أن عبارة “عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا وسوريا لأمن لبنان في أي حال من الأحوال، وأن لا يسمح لبنان بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو بأمن سوريا، وأن سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأي عمل يهدّد أمنه واستقلاله”، تكرّرت في كل الاتفاقات المعقودة بين لبنان وسوريا ولم تحترم. فاسرائيل اعتدت على لبنان في حرب تموز 2006 ولم تتحرك سوريا دفاعاً عن أمنه واستقلاله، وأصبحت الحدود اللبنانية – السورية ممراً للمسلحين ولتهريب الاسلحة، ولم تتخذ اجراءات لمنع ذلك، لا بل كانت سوريا ولا تزال ملاذاً لعدد من الفارين من وجه العدالة.
فهل يمكن القول إن الاتفاق حول الملف النووي الايراني سيكون محترماً ويلتزم جميع موقعيه تنفيذه تنفيذاً كاملاً، أم يكون مصيره كمصير اتفاقات كثيرة معقودة مع اسرائيل ومع الفلسطينيين ومع سوريا ولبنان، لا بل كمصير كثير من القرارات الدولية التي لو أنها نفذت لكانت منطقة الشرق الأوسط تنعم من زمان بالأمن والسلام والاستقرار والازدهار.
الواقع أن الطرف الأقوى في كل اتفاق يتمّ توقيعه هو الذي يستطيع تنفيذ ما يشاء منه وعدم تنفيذ ما لا يشاء. ومن يدري متى يقوم وأين هتلر جديد يمزق المعاهدات والاتفاقات ويعلن الحرب؟…