يكاد لا يصدّق اللبنانيون التطورات التي تحصل على صعيد الاستحقاق الرئاسي وتوافق أكثرية المكوّنات السياسية على انتخاب رئيس صُنِع في لبنان مئة في المئة، والتفاف الكتل النيابية الوازنة حول شخص رئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون، مع اتّجاهه إلى خطاب لبناني ميثاقي جامع، يقوم على ركيزتين أساسيتين: تنفيذ اتّفاق الطائف وبناء الدولة اللبنانية. فهل تشكّل انعطافة عون خطراً على حياته وأمنِه وتحرّكاته ومسيرته الرئاسية في ظلّ وجود أطراف محلية وإقليمية لا تستسيغ مثلَ هذه التحوّلات الوطنية اللبنانية البحتة؟ نطرح هذا السؤال ليس تشاؤماً بل انطلاقاً من التاريخ اللبناني السياسي المعاصر الذي يحتّم علينا النظرَ بواقعية وحذر أمام هذا المشهد الجامع.
يُعرَف عون بأنه رجل سياسي برغماتيّ ذات نبرة عسكريّة وقدرة عالية على التغيير في التكتيكات السياسية من دون أن يؤدي ذلك إلى خسائر كبيرة في شعبيته.
ومن يراقب مسيرة عون لا بد أن يكتشف حجم التناقضات في سلوكه السياسي، فهو حارَب النظام السوري في أواخر الثمانيات وحتى عام 2005، ثم تقرّب منه ما بعد عام 2007. كان ضد السلاح غير الشرعي لـ»حزب الله» ما قبل 2006 وبات حليفاً لـ»الحزب» ما بعدها.
قاتلَ الرموز المحسوبة على عهد الوصاية في منفاه الفرنسي ثمّ تَحالف معها عام 2005 ضد قوى 14 آذار التي اختارت التحالف مع «حزب الله» وحركة «أمل»، وتمكّنَ مِن اكتساح الدوائر المسيحية في أوّل انتخابات تجري بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان.
خاض حرباً ضد «القوات اللبنانية» عام 1989 ثمّ تَحالف معها عام 2016 في ما يُسمّى «تفاهم معراب».
كان خصماً لسليمان فرنجية الجد والحفيد في الثمانينات وطوال حقبة الوصاية السورية ثمّ تَحالف معه بعد عودته من منفاه، قبل أن يعود إلى مخاصمته منذ عام 2015 تاريخ ترشيح الحريري له في رئاسة الجمهورية.
جامِعٌ مشترك ربَط بين كلّ هذه التحوّلات، هو رغبة عون في الوصول إلى قصر بعبدا ليكون رئيساً للجمهورية، وربّما كان الهدف من كلّ هذه التحوّلات البرغماتية الوصول إلى الرئاسة، وهو قد بات قاب قوسين من تحقيق هدفه بعد يومين، موعد الجلسة الانتخابية الـ46.
منذ فترة غير طويلة كان عون لا يزال المرشّحَ الرئاسي غير المقبول من القوى المسيحية الفاعلة، ولا سيّما «القوات اللبنانية»، وكان منذ أسابيع غيرَ مَرضيٍّ عنه من «المستقبل» التيار السنّي المعتدل الذي كان يرى في عون ذلك المرشّحَ الطائفي غير المحبّب للطائفة السُنّية، وكان بالنسبة إلى كثيرين الزعيم السياسيّ الطامح إلى الرئاسة سعياً إلى تحقيق مآرب شخصيّة له أو لعائلته ومناصريه. وكان الإيرانيَّ الهوى الذي يقرّ لـ«حزب الله» بسلاحه، الساكت عن انفلاش الدويلة على الدولة والمتسامح مع حروب «الحزب» في سوريا والعراق وما بعدهما.
لكن ما يحصل الآن يُعتبَر تحوّلاً تاريخياً مصيرياً في مسيرة عون ومسيرة شعب تعبَ من حالة الانهيار التي تعاني منها الدولة اللبنانية، وتعبَ من حالة الفراغ في المؤسّسات، وخصوصاً رئاسة الجمهورية، تعبَ من حالة النزاعات بين المكوّنات السياسية، تعبَ من حالة المرض الذي أصاب اللعبة الديموقراطية، وهو بحاجة إلى صدمة إيجابية تعيد الاعتبار إلى لبنان النظام والدولة.
يُدرك عون هذه الأمور، وهو السياسي الثمانيني الآتي من عائلة متوسّطة الحال، وليس لها إرث سياسي أو إقطاعي. حلمُه برئاسة الجمهورية يكاد يتحقّق، ولا شيء يمنع من أن يكون ذلك الرئيس الذي يتحدّى نفسَه للتغيير الذي يحلم به الشعب. وبالفعل بدأ عون التحوّل منذ «تفاهم معراب» الذي أخرجَه من وضعيّة معينة، ليعود إلى الدستور والقانون والدولة وعزل لبنان عن نزاعات المحاور، والأهمّ أنّ هذا التفاهم منَحه غطاءً مسيحياً قوياً، بحيث بات فعلاً المرشّح ذات القدرة التمثيلية الأقوى عند المسيحيين.
ولعلّ هذا التحوّل البارز أخافَ كثيرين من الذين لا مصلحة لهم بأن يكون في رئاسة الجمهورية رجلٌ قويٌّ مقبول لدى المسيحيين، وسيمارس صلاحياته ويتمتّع بقوّة قرار، ما يعوّض نقصَ الصلاحيات، العطبَ المزمن في نظام «الطائف» منذ عام 1990.
التحوّل الذي لا يقلّ أهمّيةً عن «تفاهم معراب» والذي يجعل عون في دائرة الخطر، تفاهمُه مع الحريري وتيار «المستقبل» على قاعدة تنفيذ اتّفاق الطائف وبناء الدولة اللبنانية وتحييد لبنان عن سياسة المحاور وعدم السماح باستعماله مقرّاً أو ممرّاً أو منطلقاً لتهريب السلاح أو المسلحين والتزام قرارات الشرعية الدولية.
أمّا التحوّل الكبير فهو خروج عون من حيثيته الحزبية والطائفية إلى تحدُّثه بلغة تجمع حوله كلَّ اللبنانيين ونيّاته في السير بالبلاد بنوع من المصالحة الوطنية الحقيقية الكاملة، واستعداده أن يكون رئيساً عادلاً يعطي لكلّ إنسان مسيحيّ أو غير مسيحي حقّه، فهو مصمّم على أن يكون رئيساً مارونياً لكلّ لبنان وجامعاً لكلّ اللبنانيين.
يشبه هذا التحوّل الأخير تحوّلاتٍ رئاسية سابقة، نَذكر منها تجربتَي الرئيسين الشهيدين بشير الجميّل ورينيه معوّض، اللذين لقيا حتفَهما قبل أن ينطلقا في عهدَيهما. لذا كلّما اتّجه أداء عون من البرغماتية إلى المثالية والحلم اللبناني، سيكون عرضةً لمزيد من الأخطار التي تستوجب منه توخّي الحذر والانتباه إلى أقصى حدود.
والحلم اللبناني يُترجمه عون أكثر بأن لا يكون رئيساً مرتبطاً بمحور خارجي، بل رئيساً يبتعد عن الدويلة لمصلحة الدولة، يرفض أن يكون في لبنان سلاحان وجيشان وقراران استراتيجيان، لأنّ عون الرئيس لا بد أنّه يدرك مكامنَ الخطر على عهده، بل يعرف بعمق مآل هذه الازدواجية المدمّرة، وهو مقتنع بأنّ رأسَ الدولة لا يرضى أن يكون راضخاً للدويلة. وبمقدار ما سيَرفض عون أن يكون في لبنان جيشٌ للداخل وجيش عابر للحدود، يصبح أمنه مهدّداً وقدرته على التحرّك خارج القصر مكبّلة.
يُقال إنّ عون أحاط عهدَه بارتباطات وتفاهمات لا يمكنه الخروج منها، أهمُّها التفاهم مع «حزب الله» المستمر منذ 2006، لكن من يستطيع أن يضمن خيارات عون، وهو الرئيس الذي يشكّل في وجدان بعض المسيحيين ذلك المتمرّد الذي لا شيء يَكبح جموحه نحو بناء دولة فعلية، وبالتالي يؤكّد المقرّبون منه أنّه لا يجوز أن يراهن أحدٌ على تعَبه أو تقدّمه في السنّ.
هناك من يرى أنّ الكلام عن خطر يهدّد عون الرئيس خالٍ من الصدقيّة طالما إنّ وصوله إلى الرئاسة مشروع غلبَةٍ إيرانيّة في لبنان، لكن عون قد يكون فعلاً في دائرة الخطر لأنّ ما يُعلن إيمانَه به منذ فترة والذي يؤكّد عليه مراراً من منطلق ميثاقيّ أنّه سيكون رئيساً لكلّ لبنان، ولن يرضى بتحويل لبنان إلى ساحة تستخدمها الدول الإقليميّة. وهنا ستتغلّب استراتيجيّة عون على التكتيك البرغماتي الذي لم يعُد يحتاج إليه بعد تحقيق حلمِه الرئاسي، وبات عليه أن يثبتَ فعلاً أنّه الرئيس الحلم الذي لن ينساه اللبنانيون.
هذا الهدف الأخير قد يَجعله في دائرة الاستهداف الحقيقي، وهناك مسؤولية ضخمة سيشعر بها ما إن يدخل قصر بعبدا، وهي حماية نفسه من أعداء المشروع اللبناني البحت، وسط منطقة تغلي بالحروب وبركان من الدماء يملأ أنهار الشرق.
المستقبل القريب سيُثبت اتّجاه عون الحقيقي، وما إذا كان بالفعل الرئيس «الحلم» للبنان، وسيُكشف من يسعى إلى وقف هذا «الحلم» في بلد يتهدّده خطر الانهيار.