حققت ميليشيا «حزب الله» نجاحين هشين في معركة جرود عرسال.
نجاح في «الانتصار» على مجموعات المسلحين في الجرود اللبنانية السورية، جاء تعويضاً عن انتصارات باتت مستحيلة في سوريا. لا ننسى أن «حزب الله» دخل سوريا «لحماية ظهر المقاومة» وامتدادها الجغرافي الطبيعي. ليس بشار الأسد، من هذا المنظار، إلا رمزاً لدولة ضمن محور الحرس الثوري. لكن الأسد اليوم بات مجرد عنوان رمزي «لدولة مقاومة» لم تعد موجودة، فيما سوريا الفعلية محكومة بتوازنات روسية أميركية إسرائيلية، في المقام الأول ثم توازنات تركية إيرانية عربية.
لن يعود «حزب الله» من سوريا منتصراً ولن يلقي نصر الله خطاب النصر السوري. خطاب النصر في عرسال هو بديل موضوعي عن امتناع الخطاب الأول عليه وعلى حزبه، وهو يرى ويسمع تفاصيل إقفال جبهة جنوب سوريا في وجهه ووجه إيران.
نجح في البقاء في دائرة النصر، ولو التلفزيوني، وهو الذي وضع نفسه في مسار لا حياة فيه لحزبه إلا بالانتقال من نصر إلى نصر. الهزيمة الأولى هي الهزيمة الأخيرة، وهو ما لا ينبغي أن يكون له مكان في مسيرة «حزب الله»، حتى لو اضطر إلى انتحال الانتصارات انتحالاً وتوليفها إعلاماً.
نجح ثانياً، في الغرف من معين الوطنية اللبنانية. الراية المزدوجة التي كانت راية معركة عرسال هي علم «حزب الله»، يعلوه للمرة الأولى العلم اللبناني. بالغ في التماهي مع الجيش اللبناني، فرفع صور شهدائه، في مواقع ذبحهم بسكاكين الإرهاب، ورعى فعاليات فلكلورية بدا فيها «الشعب» سنداً للمقاومة، يعد لها الطعام، ويسهم في التخفيف من عبء الحرب عليها، تكفيراً ربما عن ذنب يرتكبه هذا الشعب بتحميل «حزب الله» ما لا يجب أن يحتمله. وواكبه في هذه الوطنية الساذجة إعلام عريض، وجانب من الرأي العام المسيحي، لا يكلفه الموقف المنحاز لـ«حزب الله» في هذه المعركة الكثير، أو هكذا يظن.
فالمعركة بالنسبة لهؤلاء قائمة في الأطراف البعيدة البعيدة، والذين يَقتُلون ويُقتَلون، سنة وشيعة ليس بين أولوياتهم أي اشتباك مباشر مع المسيحيين. والأهم والأعم، أن الرأي العام اللبناني منهك بانشغالات حياتية، تتصدرها الضرائب الجديدة المنتظرة، وغلاء المعيشة، وقلة الحال، ما استنزف الدافع للاستنفار بوجه «حزب الله». وفي العمق، ما عادت فكرة الصراع بين الميليشيا والدولة تستثير الكثير، في ظل الانهيار المريع في سمعة الدولة ومؤسساتها وفشلها وأخبار الفساد، الحقيقية والوهمية.
نجاحان وهشاشتان..
أما الهشاشة الأولى، فمردها أن «الانتصار» التلفزيوني العظيم، لن يصمد كثيراً أمام وقائع ميدانية وسياسية يغلب ضوؤها ما عداه من بريق زائف. فلأميركا أربعة مطارات في «سوريا المقاومة» وعشرات القواعد العسكرية، فيما حسن نصر الله يرغي ويزبد في مواجهة أبو مالك التلي، ويحصي التلال التي يحررها جنوده وكأنه هانيبعل الذي سار بجيش من الفيلة عبر جبال البرانس وجبال الألب! ومرد الهشاشة أيضاً، في المقلب الآخر، أن نصف محور المقاومة، أي الحشد العراقي، يخوض معاركه بحماية الطيران الحربي الأميركي.
الهشاشة الثانية، هي هشاشة فورة الوطنية اللبنانية المفاجئة والتي نجح «حزب الله» في استثمارها والبناء عليها لاختراق بيئات ظلت قلوبها وعقولها مواجهة له. لطالما تبجح «حزب الله» أنه لا يحتاج إلى إجماع وطني، وهو إذ يبالغ في الجهود التي بذلها لتظهير «الإجماع الوطني» حوله فلأنه يدرك أن هذه لحظة لن تدوم طويلاً، ولها أسبابها التي أسلفت الإشارة إلى بعضها.
الانتصار الحقيقي والمخيف لـ«حزب الله» هو على لبنان. لطالما كانت ذريعتنا أن ثمة لبنانَيْن، واحداً يحكمه «حزب الله» والثاني يقاومه. وكانت هذه الثنائية حصناً حصيناً لنا في مواجهة ما قد يترتب على أي بلد يؤوي ميليشيا من وزن «حزب الله». ولطالما أقنعنا العالم أن تعزيز الدولة وقوى الدولة في لبنان، يأكل من رصيد «حزب الله» ومن صحنه. هل ما زالت هذه المعادلة قائمة؟
تصعب الإجابة بنعم. صحيح أننا نعيش اليوم في ظل حكومة شراكة مع «حزب الله» يفترض أنها تقوم نظرياً على المعادلة نفسها، أي معادلة لبنان الدولة الذي يقضم من لبنان «حزب الله»، لكنها عملياً، شراكة في ظل اختلال كبير في ميزان القوى وميزان القرار السياسي لصالح «حزب الله».
انتصار «حزب الله» الفعلي على لبنان هو خوضه معركة جرود عرسال، ضارباً عرض الحائط بالحكومة ورئاسة الجمهورية والجيش اللبناني، ما زاد من ضعف هذه المعادلة، وأفقدها المزيد من منطقها وادعاءاتها.
لبنان الدولة لا يأكل من لبنان «حزب الله» بل بات درعاً يتحصن به «حزب الله» لحماية نفسه من عقوبات أو إجراءات أو قرارات بحجة حماية البلد.
لا أعرف مَن يقبل منا هذا المنطق بعد. لبنان، أراه قطر ثانية، ناقص إمكانات قطر. دولة مُقاطعة، لا يملك أحد شهية دعم فريق الدولة فيها لا في انتخابات مقبلة ولا في غيرها، بل ثمة رغبة في رؤية البلد محكوماً من «حزب الله»، كما هو في الواقع، ليبنى على الشيء مقتضاه.