مَن تابَع تصريحات الرئيس الأميركي ما بين المملكة العربية السعودية وألمانيا ظنَّ أنّ الرجل يعيش مرحلةً من انفصام الشخصية. فهو دعا إلى حماية الخليج من الطموحات والتهديدات الإيرانية وإلى الحوار مع طهران في آن. كما رفضَ تدخّلَ قوات برّية غربية وأميركية لإقصاء الرئيس بشّار الأسد، ويعتزم تكليفَ قوات أميركية لتقليص «داعش» ولكنْ «ببطء». فما هي القراءة الأميركية لهذه المواقف؟
قبل أن يتوجّه الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الرياض ليلتقي قادةَ مجلس التعاون الخليجي، كانت الديبلوماسية الأميركية تسَوّق للزيارة على أنّها زيارته الأخيرة قبل نهاية ولايته، وأنّ هناك سلسلة من الوصايا – الثوابت التي لا بدّ من توجيهها إلى قادة الخليج مضافةً الى التزاماته تجاهها، ولردّ مسلسل الاتّهامات التي وجّهت إليه بأنه تراجَع عن تلك التي أطلقها في قمّة «كامب دايفيد» مع القادة أنفسِهم في 14 أيار من العام الماضي والتي استنسخت قبل أيام مرّة أخرى في الرياض.
وكما في «قمّة الرياض الثانية»، كان أوباما واضحاً في «القمّة الأولى»، عندما أكّد «التزام الولايات المتحدة الراسخ أمنَ دوَل الخليج». وتعهّد بـ»تعزيز التعاون العسكري بين الطرفين والتصدّي لأيّ خطر خارجي يتهدّد سلامة أراضي الدول الخليجية الستّ».
وذلك في محاولة وصِفت في حينه بأنّها «لطمأنة حلفائه العرب إزاءَ تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة»، على مسافة أسابيع قليلة من توقيع التفاهم النووي بين إيران ومجموعة (5 + 1).
فما الذي تَغيّر إذاً؟ – سأل أحد الديبلوماسيين الأميركيين في تقويمه للتطوّرات، فقال: «بالعكس لقد أعاد التاريخ نفسَه في الأمس وبأسرع ما يتصوّره البعض»، وإنّ أوباما وإلى جانب التعهدات عينِها والاستعداد لعقد مزيد من صفقات الأسلحة بين بلاده ودول الخليج.
وكما في القمّة الأولى حرصَ مرّة ثانية على التأكيد أنّ «تخفيف حدّة التوتّرات في المنطقة» يتمّ في النهاية من خلال «حوار أوسع يشمل ايران وجيرانها في الخليج».
علماً أنّه كان في «كامب دايفيد» أقسى عندما نبّه الى مخاطر «أيّ مواجهة طويلة الأمد مع ايران أو حتى تهميشها»، مؤكّداً أنّ تعزيز القدرات العسكرية لدول مجلس التعاون يتيح لهذه الدول مواجهة إيران من موقع «ثقة وقوّة».
وكما في قمّة «كامب دايفيد» فقد جدّدت وندّدت « قمة الرياض» في البيان المشترك على لسان طرفيها الولايات المتحدة والدول الخليجية نفسها السعودية والبحرين والإمارات والكويت وسلطنة عمان وقطر، بـ «الأنشطة الايرانية المزعزعة للاستقرار» في الخليج والشرق الاوسط. لكن ذلك لم يخفّف من دعوة اوباما الى الحوار والتفاهم مع ايران أيّاً كان الثمن، فهو «أقلّ من خسائر أيّ مواجهة».
ويضيف الديبلوماسي: «كما بالنسبة الى ثوابت الولايات المتحدة الأميركية الخليجية، فإنّ إدارته بقيَت على الموقف عينه بالنسبة الى الأزمة السورية وتردّداتها على دول الجوار السوري وأوروبا المنشغلة بتطويق ذيول موجة النزوح في اتجاهاتها الإنسانية والاجتماعية والأمنية على حدّ سواء. وها هو يؤكّد مرّة أخرى من برلين بعد لقائه المستشارة الألمانية انجيلا ميركل المواقفَ عينها».
وفي التفاصيل، قال الديبلوماسي الأميركي إنّ أوباما أكّد في الأمس رفضَه المطلق «إقامة منطقة عازلة في سوريا»، تحدّثت عنها المستشارة الألمانية في زيارتها الأخيرة قبل ايام الى تركيا بعد لقاءاتها مع أصحاب الفكرة من المسؤولين الأتراك الذين يطالبون بها منذ سنتين على الأقل.
وعلى رغم اعتبار ميركل أنّ اقتراحها مختلف عن الطروحات التركية وتلك التقليدية السابقة وأنّها ستكون نتاج التفاهمات الجارية بين مختلف الأطراف، فلا يترتّب على المنطقة المقترحة أيّ التزامات دولية كما يعتقد الأميركيون، جدّد أوباما التأكيد أنّها خطوة «صعبة من الناحية التطبيقية»، وأنّه لا يمكن «تخيّل نجاح إقامة منطقة آمنة في سوريا من دون التزام عسكري كبير».
لكن ما كان مفاجئاً في مواقف أوباما، أنّه حذّرَ للمرّة الأولى في رسالة وجّهها الى الزعماء الأوروبيين قبل الأتراك وغيرهم بالقول «إنّ استخدام الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الغربية الأخرى قوات برّية للإطاحة بالرئيس السوري بشّار الأسد سيكون خطأ».
وزادت المفاجأة عندما نُقل عنه بعد ساعات عزمُه على «إرسال 250 عسكرياً إضافياً إلى سوريا للمساعدة في قتال «داعش»، مبرّراً اقتراحَه بالقول إنّه من الممكن تقليص الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم ولكن «ببطء».
وبناءً على ما تقدّم، يقول الديبلوماسي الأميركي إنّ إحياءَ المعادلتين الأميركيتين في الخليج وسوريا لا يحمل أيّ تناقضات كما يشير البعض لا في الشكل ولا في المضمون. لكنّه يعتقد أنّ المطلوب اليوم بالنسبة الى إدارته تجميد الأزمات على ما هي عليه من ستاتيكو قائم الى حين إتمام العملية الرئاسية الأميركية الانتقالية من عهد الى عهد.
وهو ما التقى عليه الديبلومسي وخبَراء عسكريون يتابعون تطوّرات المنطقة، فالتقوا على القول إنّ أوباما يَدفع بإدارته الى التفاهم مع روسيا على تجميد الوضع من دون أيّ «متغيّرات دراماتيكية» في أيّ اتّجاه إلى حين تسليمه الأمانة الى الإدارة الجديدة، وعندها سيكون لكلّ حادث حديث، وما على الجميع سوى انتظار تلك اللحظة؟!